د. عادل البكري
باحث موسيقي
كان عثمان الموصلي ينبوعاً للألحان وقيثارة للنغم السماوي وعلماً فرداً في الموسيقى في بلاد الشرق خلال فترة تمتد من الربع الاخير للقرن التاسع عشر حتى اوائل القرن العشرين وله فضل في تطوير الموسيقى العربية وتجديدها.
نشأ هذا النابغة محباً للموسيقى منذ نعومة أظفاره، وقد أعجب مربيه محمود افندي العمري بصوته يوم كان طفلاً يقيم في داره مع اطفاله وهو كفيف البصر اذ يأخذ بالإنشاد بصوت مرتفع يبعث على النشوة والإعجاب مما جعل مربيه العمري يعهد به الى أساتذة يعلمونه اصول الألحان، وعندما شب عن الطوق ورحل الى بغداد اتصل بالمغني رحمة الله شلتاغ المشهور بغناء المقامات، وكذلك بالحاج عبد الله الكركوكي وهما من أساتذة الفن في العراق في القرن التاسع عشر.
درس عليهما الغناء والموسيقى وقد اشتهر الشيخ عثمان بصوت دافئ بديع من طبقة غليظة حلوة وصفه الأستاذ محمد بهجة الاثري في مجلة لغة العرب (عدد تشرين الثاني عام 1926) بقوله: كان صوتاً معبدياً ينعش الأرواح من كبوات الاتراح وجرساً غريضياً يخرس الأطيار في أعالي الأشجار، فلم يزل يعاني الصنعة حتى جاءت منه آية نسخت آية إبراهيم الموصلي فحلق طائر صيته في سماء العراق وأصبح حديث المحافل والنوادي في الأصقاع والآفاق.
وقد عرف عن هذا الفنان انه كان أقدر من يضبط المقام ويميز بين الأنغام ويدل على تباين الاصوات مهما تقاربت حتى انه يميز الوتر المختل عن بقية الاوتار إذا سمع وهو في الطريق عزفاً على عود وكان أحد اوتاره غير محكم الضبط فيذكر اسم ذلك الوتر المختل، ولم يفعل ذلك سواه غير إبراهيم الموصلي أحد كبار الموسيقيين في صدر الدولة العباسية فقد ذكر أبو الفرج الأصفهاني في كتابه (الأغاني) ان إبراهيم الموصلي كان يميز اختلال الوتر من بين مجموعة الاوتار إذا عزفت عليه احدى جواريه.
وكان عثمان الموصلي يدوزن العود والقانون بنفسه ويعزف عليهما بصورة رائعة برغم ما في ذلك من صعوبة لمن فقد بصره وكان لا يستعمل عند عزف القانون العربات التي تستعمل لإخراج انصاف الارباع بل كان يتلاعب بأنامله وأطراف أظافره فيخرج النغمات سليمة شجية مما لم يسبق لغيره ان أتى بمثله، وكان يجيد استعمال الناي ويضرب على الطبلة بسرعة هائلة تدعو الى العجب ويتقن استعمال النوتة الموسيقية الغربية ويحفظ حروفها بالسماع ويخرجها عند العزف بإنصافها وارباعها في ذلك الوقت الذي قل من سمع فيه بالنوتة الموسيقية في بلادنا.
وفي تركيا كان عثمان الموصلي يتمتع بمنزلة رفيعة بين الفنانين الاتراك وقد عينته الحكومة العثمانية مدرساً للموسيقى في احدى مدارس العاصمة إستانبول تقديراً لنبوغه وعلو كعبه في هذا الفن، وكان له كثير من المعجبين والتلاميذ من مشاهير الفنانين الاتراك كالموسيقار سامي بك والمغنية الشهيرة (نصيب) فأخذوا عنه فن الموشحات والفنون الموسيقية الاخرى التي مزجوها بالموسيقى التركية.
وبذلك اوجد هذا الفنان العبقري اسلوباً من النغم مازال الاتراك يعترفون به حتى الان ويطلقون عليه اسم (اسلوب الحافظ عثمان الموصلي) ويذيعون اغاني تركية على نمطه من اذاعاتهم بهذا الاسم وقد سجلوا بعضه على اسطوانات تباع في الاسواق.
كما ان لهذا الموسيقار قطعاً موسيقية كثيرة وضعها اثناء وجوده في تركيا وهي مسجلة الان في دار الاذاعة التركية في إستانبول وقد اطلع عليها بعض الموسيقيين العراقيين وتعزف في دار الاذاعة المذكورة، نذكر منها قطعة موسيقية من نغم (شرقي نهاوند) اطلع عليها الموسيقار جميل بشير في احدى سفراته الى تركيا فنقلها كما هي وأثبتها في كتابه المسمى (العود وطريقة تدريسه).
اما في مصر فقد كان الملا عثمان نجماً لامعاً بين اساطين الموسيقى والفن فقد التفوا حوله وأعجبوا به وكان يتربع على عرش الموسيقى والطرب في مصر آنذاك المغني عبده الحمولي فكان الالتقاء بين الرجلين حافلاً حيث أعجب كل منهما بصاحبه وكانت بينهما صلات توثقت على ارهاف فني حتى انهما كانا يجتمعان الليالي الطويلة يستمع كل منهما الى صاحبه في حفلات موسيقية خاصة وما زالا كذلك حتى يدركهما الصباح.
ويذكر أدهم الجندي في كتابه (اعلام الادب والفن) ان عبده الحمولي اخذ عن عثمان الموصلي فن الموشحات ومزجها بالأدوار المصرية وان الملا عثمان ادخل الى مصر نغمات الحجاز كار والنهاوند وفرعهما حيث كانت غير معروفة هناك.
وقد درس على موسيقارنا الكبير عدد من موسيقيي مصر المشهورين نذكر منهم الموسيقار كامل الخلعي وهو ملحن ومؤلف موسيقي اخذ عنه الموشحات التي على الاوزان التركية والشامية وقد اشار في كتابه (الموسيقى الشرقي) الى دراسته على عثمان الموصلي في عدة مواضع من الكتاب.
ومن الذين درسوا عليه كذلك الشيخ على محمود مغني الأدوار المصرية والموشحات المشهور والذي تتلمذ عليه الملحن المعروف الاستاذ زكريا أحمد ومنهم كذلك الشيخ أحمد أبو خليل القباني وهو من اقطاب الموسيقى والمسرح في مصر وغير هؤلاء من الذين اخذوا عنه فنون الموشحات والألحان.
ومن اشهر الموسيقيين المصريين الذين درسوا على عثمان الموصلي هو الموسيقار النابغة سيد درويش فقد التحق هذا الفنان في مطلع عام 1909م بفرقة أمين عطا الله واخيه سليم عطا الله الفنية التي كانت متوجهة الى بلاد الشام لتقديم بعض الفعاليات الفنية فيها، وكان الشيخ عثمان في سوريا آنذاك في اثناء عودته الاخيرة من استانبول الى بلاده ومكثت الفرقة هناك عشرة اشهر اتصل سيد درويش خلالها بالشيخ الموصلي وظل ملازماً له طوال تلك المدة، وقد كان نجاح الفرقة في مهمتها ضئيلاً او معدوماً فرجعت الى مصر لتجند كفاءات فنية اخرى وتهيئ نفسها لرحلة ثانية بعد ثلاث سنوات ثم سافرت في رحلتها هذه وكان سيد درويش ضمن اعضائها هذه المرة أيضاً فقدمت فعالياتها في بلاد سوريا ولبنان وكان نجاحها احسن من المرة السابقة وكان سيد درويش في خلال ذلك يواصل دراسته على استاذه عثمان الموصلي الذي كان مازال مقيماً هناك وقد بقيت الفرقة مدة طويلة خلال عامي 1912-1913 استطاع فيها النابغة المصري ان يأخذ الكثير من فنون الموسيقى والموشحات من عثمان الموصلي وقد حفظ عنه كل ممتع رائع من الالحان مما جعله يتصرف كثيراً بالنغم ويدخله في اغان مصرية مبتكرة.
وقد اشاد المؤلفون المصريون الذين بحثوا في تاريخ حياة سيد درويش بالدور الذي قام به عثمان الموصلي في توجيه الموسيقار المصري وتزويده بالألحان التي اقتبس منها اغانيه بعد عودته من الشام.
ولندع الاستاذ محمد البحر وهو ابن الموسيقار سيد درويش يحدثنا عن اثر عثمان الموصلي في تعليم ابيه سيد درويش اثناء رحلته الأولى والثانية فقد قال انه (تعرف خلال الرحلة الأولى بالأستاذ عثمان الموصلي واخذ عليه من التواشيح ما استطاع حفظه في تلك الفترة القصيرة، اما عن الرحلة الثانية فقد قال عنها انها الاسكندرية بعد ان امتلأت جعبته الفنية من فن الاستاذ عثمان الموصلي، وقد حفظ الكثير من الاغاني والموشحات).
وقد عرف ان لسيد درويش في مصر نحو 38 موشحاً بعضها موشحات دينية في مدح الرسول وان هذه الالحان لم تظهر في فن سيد درويش الا بعد رجوعه من الشام بعد ان التقى عثمان الموصلي وهو استاذ الموشحات الاول في بلاد الشرق.
وهناك شك في نسبة هذه الموشحات لسيد درويش حتى من النقاد المصريين أنفسهم كما جاء في أحد المصادر المهمة عنه حيث يشير الى ان هذه الموشحات قد تكون مما اتى به سيد درويش في رحلتيه المشهورتين الى سوريا ولبنان بعد تعرفه الى الموسيقار الكبير عثمان الموصلي.
وجاء في هذا المصدر أيضاً قوله نصاً انه ليس غريباً ان يسجل سيد درويش نوتات ما حفظه من الموصلي بخط يده حفظاً عليه من الضياع والنسيان.
وقد استطاع سيد درويش ان يطور الموسيقى المصرية حتى بلغ بها المكانة الرفيعة وكان كثير من الالحان مما اقتبسه من استاذه الموصلي يأخذ شكلاً جديداً وينتشر بشكل اغان خفيفة في طول البلاد وعرضها مثل اغنية: (طلعت يا محلى نورها) التي كانت في الاصل موشحاً دينياً من نغم الجهاركاه مطلعه: (يهوى المختار المهدي) وكذلك اغنية (زوروني بالسنة مرة) التي كانت هي الاخرى موشحاً في مدح الرسول مطلعه (زر قبر الحبيب مرة) وهكذا.
وقد درس على هذا الشيخ في العراق عدد كبير من الطلاب الذين اختصوا بالألحان والمقامات والغناء نذكر منهم محمد علي خيوكه المتوفى سنة 1908م وحسين علي الصفو المتوفى سنة 1911م وعبد الرزاق القبانجي المتوفى سنة 1931م والحاج سلو الجزمجي المتوفى بالموصل سنة 1933 والسيد أحمد عبد القادر الموصلي المتوفى بالموصل سنة 1941م والملا مبارك المتوفى سنة 1330هـ والحاج أحمد بن الملا كاظم بن دبيس المتوفى سنة 1335هـ وأحمد بن شعبان المولود سنة 1898م والحاج محمد بن سرحان المتوفى بالموصل سنة 1949 وعبد الفتاح معروف المولود سنة 1891م وحسين النمنم بن علي المولود ببغداد سنة 1880م والسيد محمود الهاشمي المولود سنة 1897م والحاج عبد القادر بن عبد الرزاق المولود ببغداد سنة 1895م والحاج محي الدين مكي المتوفى سنة 1362هـ والسيد محمد وحيد الدين بن الشيخ أحمد القادري والملا الكور رشيد ومحمود بن الطحانة ورشيد أبو ندر وشهاب بن شعبان وغيرهم، وقد اختص عدد من هؤلاء بقراءة الموشحات والمواليد فقط.
وقد نهض الملا عثمان بفن الموشحات وعمل على تطويره وهو الذي تربع على عرشه خلال فترة طويلة من الزمن ولم يزاحمه فيه أحد وكان لهذا الفن عشاقه الكثيرون وما يزال العراقيون يذكرون حفلات المولد التي يقيمها هذا الفنان فكانوا يتزاحمون لسماعه ويتوافدون عليه من كل حدب وصوب.
والموشحات او التواشيح او التنزيلات فن قديم من فنون النغم يختلف عن الاغاني والمقامات والموالاة والأدوار بأشياء منها ان الموشحات تعتمد على نوع خاص من النظم هو (الموشح) ذو الاوزان القصيرة والقوافي المختلفة وتكون له بالعادة اسماط واغصان، اما الحانها فهي معقدة لا تعتمد على الاسترسال الغنائي بل على اختلاف الخانات، ويبرز فيها الايقاع بشكل ظاهر وتستعمل الموشحات غالباً في الغزل والمديح.
وقد كان الملا عثمان في فن الموشحات مدرسة كاملة بحد ذاته فهو الذي ينظم الموشحات ويلحنها لطلابه ومريديه لينشدوها في الحفلات والمجتمعات ثم تتناقلها الافواه في كل مكان وتنتشر في سائر البلاد مع القوافل الساري
الملا عثمان الموصلي مرة اخرى
كانت المرة الاولى التي التقيت فيها بالنابغة العبقري عثمان الموصلي عام 1964 عندما كنت ادرس القراءات السبع على شيخ القراء في الموصل المرحوم محمد صالح الجوادي. ولم يكن ذلك لقاءا بالمعنى المعروف لأنني قد ولدت بعد وفاته بسبع سنين، ولكن الشيخ الجوادي أخبرني مرة انه اخذ اجازة القراءات العشر عن المرحوم الملا عثمان الموصلي وحكى لي بعض اخباره وقصصه فتجمعت لدي معلومات عنه وكان ذلك هو اللقاء الذي عنيته.
ومضت الاعوام وانهيت دراسة الطب عام 1956 وفتحت عيادة لي، وكان يوم من ايام عام 1959 لم أجد الا ورجال الامن يأخذوني من عيادتي مغفورا لاعتقالي في سجن (ابو غريب) وهناك التقيت مع المرحوم عبد الجواد الجوادي الذي اعتقله الشيوعيون ايضا للسبب نفسه وهو دفاعنا عن عروبتنا وديننا. وكان من جملة ما نتحدث به اخبار الموصل فذكر لي اسم عثمان الموصلي الضرير الذي ملأ الدنيا بأخباره. وعندئذ استعدت المعلومات التي اخبرني بها شيخي محمد صالح الجوادي من قبل، فقررت ان اكتب عن هذا الرجل، ومضيت ابحث في الصحف والمجلات الصادرة في عهده واتصل بالمعمرين من الادباء وذوي الخبرة.
وانتهيت بعد سنين من البحث الى تأليف كتابي الاول الذي بعنوان (عثمان الموصلي الموسيقار الشاعر المتصوف) والذي صدر عام 1966 من القرن الماضي واتبعته بكتابين اخرين عنه في فترات متباعدة.
كان لصدور هذا الكتاب الذي صدر بمساعدة المجمع العلمي العراقي صدى واسع في اوساط المثقفين واعلام الموسيقى والفن ولقي قبولا حسنا في البلاد العربية. وقال أحد المعنيين بالأمر انني اخرجت هذا العبقري من قبره ونفضت الغبار عنه، فلم يكن أحد آنذاك يعلم تفاصيل حياة عثمان الموصلي وكان القليل من سمع باسمه.
وأدى ظهور الكتاب الى انطلاق عدد كبير من المؤلفين والكتاب للكتابة عنه وكان مصدرهم الوحيد على الاطلاق هو هذا الكتاب الاول.
وظهر اسم عثمان الموصلي في كل مكان وسميت محلات كثيرة باسمه ومنها قاعة في معهد الفنون الجميلة ببغداد وشارع في الموصل وحي بأكمله، (حي عثمان الموصلي). واقيم له تمثال في هذه المدينة سعيت انا مع المحافظة لإقامته وكنت المشرف على تصميمه وهو قائم يتحدى الزمن، وقد وضعوا اسم كتابي على قاعدته (عثمان الموصلي الموسيقار الشاعر المتصوف).
وظهرت عشرات المقالات والابحاث في الصحف والمجلات عن عثمان الموصلي وكلها تأخذ من مصدر واحد هو كتابي المذكور وتشير الى المصدر ماعدا بعض الذين يخالفون العرف الادبي ولا يشيرون الى المصدر ويدعون انهم معلوماتهم الخاصة عنه فينشرونها باسمهم.
لقد تضمن كتابي معلومات مستفيضة عن نشأة عثمان الموصلي منذ ولادته وعندما اصيب بالعمى وعطف محمود افندي العمري عليه، ثم دراسته الاولى في قراءة القران والمقامات الصوتية والموسيقى، وانتماءه عند بلوغه الى الطريقة القادرية وسفره الى عاصمة الخلافة العثمانية والتقائه بشيخ مشايخ الطرف الصوفية ابي الهدى الصيادي واخذه عنه الاجازة بالطريقة الرفاعية ثم دخوله قصر السلطان عبد الحميد ليكون المقرئ والمنشد له فنال عطفه مع تعيينه استاذا للموسيقى في احد معاهد العاصمة استانبول.
ولقد ترك الشيخ عثمان بصماته الفنية على الموسيقى التركية حتى ان دار الاذاعة التركية سجلت له عدة الحان باسم (طرز الحافظ عثمان الموصلي) وكانت تذيعها باستمرار من الاذاعة التركية.
وسافر الموصلي الى مصر مرتين نال في الاولى الاجازة بالقراءات العشر اما السفرة الثانية وكانت عام 1895 والتي استمرت خمسة سنوات فقد اصدر خلالها مجلة (المعارف) وكان يومئذ صحفيا الى جانب كونه سياسيا مندوبا عن السلطان العثماني ومؤلفا لعدد من الكتب واستاذا للموسيقى يلتف حوله عدد من كبار الموسيقيين مثل كامل الخلعي والشيخ علي محمود مغني الادوار المصرية والموشحات والشيخ احمد ابو خليل القباني الذي هو من اقطاب الموسيقى والمسرح في مصر وكان من ابرز هؤلاء سيد درويش نابغة الموسيقى المصرية وقد درس عليه في دمشق واقتبس منه عدة الحان مثل لحن اغنية (زورني بالسنة مرة) التي غنتها فيروز وكذلك اغنية (شمس الشموسة) التي يقول عنها المؤرخ حامد البازي انها اغنية بصرية لحنها الملا عثمان في البصرة وغنتها المغنية البصرية (طيرة) على يخت الشيخ خزعل امير المحمرة الذي كان راسيا في شط العرب بالعشار بحضور الشيخ خزعل نفسه .
وحامد البازي هو مؤرخ البصرة واحد ادباءها وقال في جريدة القادسية الصادرة في 7/7/1988 ان الشيخ عثمان زار البصرة مرتين بعد الانقلاب العثماني ولقي فيها الكثير من الحفاوة والتكريم واتصل بعلماء البصرة ووجهاءها والفنانين فيها وقد أكرمه طالب باشا النقيب الذي كان مرشحا لعرش العراق قبل الملك فيصل الاول الملا عثمان واقام له الحفلات والدعوات.
وينقل المؤرخ البازي ان الشيخ عثمان غنى على مسرح (اولكه) اغنية من نغم الرست .
كما يقول انه كان يجهل ان الملا عثمان يعلب الشطرنج رغم فقدانه الرؤيا حتى سمع ان السيد طالب باشا النقيب اصطحبه الى دار ابن زينب ليلعب الشطرنج هناك.
وبالإضافة الى هذه المواهب في القراءات القرآنية والتصوف وقراءة الموشحات والموسيقى والغناء ونظم الشعر والسياسة والصحافة والتأليف ونظم التاريخ الشعري والسياحة عند هذا العبقري فقد كانت له موهبة اخرى وهي معرفة الاشخاص بمجرد تحسس اياديهم او سماع كلمة منهم رغم عاهة العمى عنده.
ونظرا لتالق الشيخ عثمان بعد نشر كتابي عنه قررت مديرية الاذاعة والتلفزيون تقديم مسلسل اذاعي عنه ليذاع خلال شهر رمضان، فتم العمل واختير المرحوم الفنان القدير كنعان وصفي ليقوم بدور عثمان واذيع المسلسل من ثلاثين حلقة من دار الاذاعة العراقية وكان مسلسلا ناجحا.
وانجزت تأليف الكتاب الثاني عن هذا النابغة بناء على تكليف وزارة الثقافة والاعلام لي فقد طلبت مني الوزارة ان يكون الكتاب بشكل قصة متتابعة الاحداث ليعرض في حلقات بمسلسل تلفزيوني هذه المرة. وانتهيت من تأليف الكتاب الثاني هذا بعنوان (عثمان الموصلي قصة حياته وعبقريته) وكنت قد ادخلت فيه بعض الاضافات التي اطلعت عليها.
وقدمت الكتاب بعد صدوره الى المسؤولين في مديرية التلفزيون فجرى العمل على وضع السيناريو من قبل الكاتب القصصي الاديب عبد الاله حسن وتم اختيار الممثلين وكنت انا المشرف التاريخي على المسلسل. وقام الصديق الموسيقار الفنان سالم حسين استاذ القانون في معهد الفنون الجميلة بإعداد الموسيقى والاغاني وقد اخرج هذا المسلسل الجميل المخرج الراحل جاسم شعن.
وعرض المسلسل في تلفزيون بغداد في ثلاثة عشر حلقة وكان مسلسلا ناجحا حيث انهالت الطلبات من الفضائيات التلفزيونية العربية لنشر المسلسل غير ان دخول الجيش العراقي الى الكويت حال دون ذلك. فضاع هذا المسلسل الرائع مع ما ضاع وسرق واحترق.
وحبذا لو قامت قناة (سما الموصل) بوضع مسلسل جديد عن عثمان الموصلي ويعرض من القناة الفضائية.
وجاء دور الكتاب الثالث الذي اصدرته عن هذا النابغة فقد الفت هذا الكتاب الذي بعنوان (مع عثمان الموصلي وقيثارة النغم) وقامت وزارة الاعلام بطبعه ونشره بمناسبة مرور خمسين سنة على وفاته. وبهذه المناسبة اقامت الوزارة المهرجان الذهبي له في قاعة الخلد ببغداد بتاريخ 1/2/1973 وهو مهرجان فخم حضره جمع كبير من اعلام الفن والموسيقى والادب وشخصيات من خارج العراق …. وغنى في حفلة الافتتاح مطرب العراق الكبير المرحوم محمد القبانجي من شعر من نظمه وتلحينه، جاء فيه:
عثمان يا خالق الأنغام ليلتنــا
طابت بذكرك من عذب التلاحين
إني احييك من روحي ومن نغمي
تحية من فؤادي بعد خمسيـــن
وفي الموصل أقمنا في اواخر الستينات من القرن الماضي احتفالا في منطقة الغابات في ذكرى عثمان الموصلي وكان بتوجيه مني شاركت في فرقة الملا عثمان وقدمت بعض الموشحات والاغاني من نظم الشيخ عثمان وتلحينه.
وندوة اخرى اقامتها كلية الآداب في جامعة الموصل يوم الثلاثاء المصادف 8/4/2008 جرى فيها تكريم هذا العبقري بالقصائد والخطابات والابحاث وتوزيع الشهادات التقديرية للمشاركين في الاحتفال.
وقد نظم الشاعر المعروف الشيخ علي حامد الراوي قصيدة من اكثر من عشرين بيتا قال انها مهداة الى مؤلف سيرة عثمان الموصلي وهو كاتب هذا البحث جاء فيها:
انت يا عثمان زدها نغمـــة
واملأ الاسماع من حسن الاداء
(عادل البكري) اوفى سيـرة
بكتاب فيه ذكرى ووفـــاء
والكتاب الثالث الذي اصدرته عن عثمان الموصلي وذكرته قبل قليل كان قد ضم مجموعة من الاغاني والموشحات والنوادر والطرائف عن هذا الضرير الجبار (كما كان يدعى) مع نبذة عن سيرته وتاريخ حياته.
ومن هذه الاغنيات والموشحات ما أخبرني به المرحوم علي الدبو أحد رواد الفرقة الموسيقية في دار الاذاعة العراقية فقال ان موشح (غدا يشفع لي التهامي) أصبح اغنية من مقام السيكاه هي (ليش حارمني منامي).
وموشح (صاحب اسال من ذوي العرفان) صار اغنية شائعة في سوريا هي (آه مشعل) من نغم الحجاز.
وموشح (احمد اتانا بحسنه سبانا) في مدح الرسول اصبح لحنا لأغنية (اسمر ابو شامة) من نغم البيات .
وكذلك موشح (صلاة الله ذو الكرم) اصبح لحنا لأغنية (قدك المياس يا عمري) الشائعة في سورية.
وموشح (يا صفوة الرحمن سكن فيكم غرامي) انقل الى اغنية (ربيتك صغيرون حسن) من نغم البيات هذا اضافة الى اغاني اخرى شائعة مثل اغنية (فوك النخل فوك) وغيرها من الاغاني التي تنسب اليه.
وقد سئل المرحوم ناظم الغزالي عن لحن (يا ام العيون السود) ممن اخذه؟ قال انه اخذه من لحن قديم من الحان عثمان الموصلي. وهكذا كانت الحانه تذاع واشعاره تنشر وطرقه الصوفية تقام لها التكايا، وكان تلاميذه في القراءات يتلون الكتاب العزيز على طريقته وكانت اخباره وطرائفه يتناقلها الادباء، ومؤلفاته متوفرة في المكتبات.