بين الأخلاق والسياسة

حسن طهمازي

يرى الفيلسوف الأمريكي جون راولس  في مؤلفه “نظرية العدالة” أنه من اللا أخلاقي ومن غير العادل أن تحمّل سلطة ما الأجيال القادمة عبء سياساتها  واختياراتها السياسية، وعليه فإنّ من واجب كل من يتولّى مسؤولية الحكم أن يستقرئ  تاريخ السلطة السابقة وأن يحدّد بوضوح وبصدق ما لم يعجب جمهور المواطنين من سياساتها مما أضرّ بمصالحهم  حتّى لا تعيد هي الأخطاء نفسها فتتحمل الأجيال اللاحقة آثارها وتتوالى أعباء نتائج الفشل السياسي أو الإداري والاقتصادي على كاهل الأجيال
بهذا المثال حدّد جون راولس أحد تعبيرات الإيطيقا السياسية أو السياسة الإيطيقية، تلك التي تنبني على مرجعية قيمية هي ذات مرجعية القانون الذي تستند إليه، وعلى مرجعية أخلاقية تستند بدورها إلى حقوق المواطنين التي يعمل القانون على تأمينها لهم وعلى حمايتها من أي تهديد.

كان يفترض إذن أن تعمل كل الأحزاب والأفراد الذين تولوا الحكم بعد ٢٠٠٣ وكان لهم ضمن مؤسسات الدولة موقع يمنحهم أمر إدارة الشأن العام ويحملهم مسؤولية إزاء المواطنين  أن يعتبروا من الأخطاء التي اقترفها سابقوهم ودفعت الشعب إلى الوقوف بالضد منها وأن يتعاملوا معها باعتبارها خطّا أحمراً لا يجوز لهم الاقتراب منه .

وقد كان الفساد واستخدام السلطة لتحقيق المصلحة الخاصة ولتقديم الامتيازات بغير وجه حق على قاعدة القرابة أو الولاء مقابل حرمان آخرين من مجمل الحقوق التي تكفلها لهم مواطنتهم، بما يترتب على ذلك من مسّ بكرامتهم، أبرز علامات ذلك الخط الأحمر من جهة وأخطر ما ظلّ المواطن  يعاني أوزاره إلى اليوم من جهة أخرى، ذلك أن  من تولوا الحكم من شخصيات وكتل واحزاب  لم يقدروا على التخفيف من آثار تلك السياسات على  المواطنين، بل إنّ الأدهى أن منهم من  انخرط فيها وواصل النهج نفسه الذي أنتج هيكلية السلطة بعد ٢٠٠٣ حتّى إنهم استقطبوا شخصيات كانت فاعلة في تلك السياسات للاستفادة من خبراتهم،
إضافة إلى ذلك يوجد مؤشّر آخر على غاية من الأهمية هو انفصال السياسة عن الأخلاق، أي انفصالها عن المرجعية القيمية والأخلاقية التي تتأسس عليها القوانين والحقوق العامة والفردية،
فعلى هذا الانفصال ترتبت سائر الأخطاء التي أودت بفشل الحكومات السابقة مثلما أودت بعموم الطبقة السياسية الراهنة وأطاحت بثقة الشعب في مختلف مكوناتها.

إن الملاحظين لما يحدث في المجال السياسي  في العراق  اليوم لا يختلفون عموما على أن هذا المجال يشهد مستوى من الانحدار المتعدد الأبعاد ينذر بكثير من المخاطر، يتجلى هذا الانحدار في مختلف مكوّنات المجال السياسي، من الأشخاص وسلوكهم، حيث لا يكاد المرء يصدق شيئا مما يقال أو يثق في أحد ممن يقدمون أنفسهم منقذين أو مصلحين  ، كذلك العلاقات بين من بأيدهم أدوات تفعيل وإدارة  العملية السياسية.. من السياسيين أفرادا وأحزابا.. فأكثرهم قد غلب المصالح الفردية وتضخم الذوات على المصالح الوطنية والجماعية،  دون أدنى اعتبار لما يترتب على ذلك من نتائج يمكن أن تكون مدمرّة للدولة ولمؤسساتها، وللقانون وللحقوق العامة والفردية ، ومن أخطر التعبيرات الدالة على هذا الانفصال بين السياسي والأخلاقي أشكال الخرق التي ترتكب بحق القانون، وأشكال الإفراط الانفعالي المتمرد على الضوابط القيمية والإيطيقية والديونطولوجية، خاصّة عندما ينصرف الجميع عن مقاومته يأسا وإحباطا ، نرى هذا في مواقف الشباب الذي يبدو وكأن ما يحدث في العراق  وما يتهدده من مخاطر شأن لا يعنيه، هذا الشباب الذي كبر  بعد ٢٠٠٣  وكنا نتمنى أن يكون دوره اليوم ذا تأثير وطني كبير  يمارس بموجبه ضغطا شعبيا للتغيير الايجابي على مؤسسات الدولة التشريعية عبر حركة التجمعات والنقابات وتنظيمات المجتمع المدني.

إن الإفراط في السلوك العنيف داخل مؤسّسات الدولة، ضدا على القيم والأخلاقيات وعلى القانون وقيمه.. ظاهر في الخطاب المتداول في مجمل المؤسسات الإعلامية أو المدنية والسياسية، وظاهر أيضا في السلوك والتصرفات الانفعالية المتطرفة ، مثلما هو ظاهر في أساليب المنافسة السياسية اللاأخلاقية وهي مظاهر يتابعها عموم الشعب يوميا عبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي ممّا ساهم في خلق حالة عامّة من الإحباط وفقدان الثقة في الجميع أفرادا ومؤسّسات نراها تتحول إلى حالة تكاد تكون عامّة من الانصراف عن متابعة الشأن العام يصعب التكهن بمآلاتها.

إن مظاهر انفصال السياسة عن الأخلاق في المجال السياسي العراقي  الراهن أكثر من أن يحاط بها في مقال قصير، ونحن لا نرمي إلى عدّها وإنما هي نماذج نريد من خلالها أن نلفت الانتباه إلى خطورتها على بلادنا وعلى الجيل الراهن وإلى أنّ آثارها ستظل تتابع الأجيال اللاحقة مثلما ستتابعها آثار سياسة التداين التي لم يول متبعوها أدنى اعتبار لهذا العبء الذي ستحمّله لتلك الأجيال. لا شك أن هناك من الأشخاص  من داخل المجال السياسي ومن خارجه من يحاولون إعادة السياسة الى الأخلاق
ولكن يبدو أنّ هذه الموجة من الشمول والشدّة ما يتجاوز إرادة الأشخاص ويحتاج إلى تحويل تلك المحاولات الفردية إلى خطّة استراتيجية ينخرط فيها كلّ من يدرك خطورة استمرارها من القوى الوطنية ومن المنظمات المدنية والأفراد.

 

قد يعجبك ايضا