د. نايف كوردستاني
المواطنة هي فكرة اجتماعية، وقانونية، وسياسية ساهمت في تطوير المجتمع الإنساني بشكل كبير إلى جانب الرُّقي بالدولة إلى مبدأ المساواة، والعدل عن طريق تعزيزها لدور النظام الديمقراطي، ومبدأ الشفافية في بناء، وتطوير الدولة، وذلك من خلال إشراك المواطنين بالحكم، وضمان حقوقهم، وواجباتهم في النظام الديمقراطي المتمدن .
والمواطنة في كل حقبة تأريخية إنما كانت تعبر عن التركيبة الثقافية والأخلاقية لتلك الحقبة التأريخية .
بَيْدَ أن ممارسة حقوق المواطنة تبقى عملية ناقصة غير مكتملة الأركان، ومحفوفة بالمخاطر ، وذلك بالتراجع عنها، أو الاعتداء عليها من دون رسوخ ثقافة المواطنة في الوعي الاجتماعي العام، فأن عملية بناء الوعي العام يتطلب بناء قواعد قانونية تضمن حقوق المواطنة السياسية، والقانونية إلى جانب نشر ثقافتي المواطنة، والديمقراطية، فضلًا عن وجود آليات لرصد انتهاكات حقوق المواطنة، وتعبئة الرأي العام للتصدِّي لها، والوقوف بوجه تلك الخروقات .
فيا تُرى ما هي المواطنةُ؟
المواطنة في اللغة من مصدر الفعل ( وَاطَنَ ) على وزن ( فَاعَلَ )، ويأتي بمعنى شارك في المكان إقامة، ومولدًا .
فواطنَ يواطنُ مواطنةً، فهو مواطن، والمفعول مَواطن ، وواطن القوم: عاش معهم في وطن واحد .
فالمَواطِن جمع مفرده موطن، والمواطن هو من يقيم معك في الوطن واحد .
فالمواطنة لها مفاهيم كثيرة من أبرزها: وهي الانتماء إلى بلد، وشعب يقطن هذا البلد، وهي رابطة قانونية بين الفرد، والدولة التي يقيم فيها بشكل ثابت، وتحدِّد هذه العلاقة عادة حقوق الفرد في الدولة، وواجباته تجاهها.
والمواطنة هي إقامة مجتمع وطني يقوم على اختيار إرادة العيش المشترك بين أبنائه، وتحقيق نوع من التوازن بين الحقوق، والواجبات .
ويمكن عَدُّ المواطنة بشكل عام بأنها المكان الذي يستقر فيه الفرد بشكل دائم في الدولة، أو يحمل جنسيتها، ويكون مشاركًا في الحُكْم، ويخضع للقوانين الصادرة عنها، ويتمتع بشكل متساوٍ من دون أي نوع من أنواع التمييز الديني، أو القومي، أو المذهبي، أو الثقافي مع بقية المواطنين في تلك الدولة بمجموعة من الحقوق، ويلتزم بأداء مجموعة من الواجبات تجاه الدولة التي ينتمي إليها بما يشعره بالانتماء إليها .
ففي الأنظمة الديمقراطية يتمتع كل من يحمل جنسية الدولة من البالغين الراشدين بحقوق المواطنة .
المواطنة هي صفة ملازمة للمواطن، وتُحدِّد حقوقه، وواجباته الوطنية، ومن خلالها يعرف الفرد حقوقه، ويؤدي واجباته عن طريق التربية الوطنية .
تتميز المواطنة بنوع خاص من ولاء المواطن لوطنه، وخدمته في أوقات السلم، والحرب، والتعاون مع المواطنين الآخرين عن طريق العمل المؤسساتي .
إن تأصيل مبدأ المواطنة من المبادئ التي تؤدي إلى التقارب بين المجتمع الواحد، وبين المجتمعات الأخرى مع بعضها، وبين السلطة الحاكمة، والأفراد في المجتمع الواحد.
إن محاولة تأصيل مبدأ المواطنة في المجتمع يحتاج إلى فهم كثير من القضايا السياسية، والاجتماعية، والإشكالات التي يقوم عليها مفهوم المواطنة من أجل تحقيق تنمية الوحدة الوطنية، وتاتي أهمية العمل على تأصيل المواطنة في ظل التطور السياسي لكون المواطنة ركنًا أساسيًا من أركان التحوّل الديمقراطي، والإصلاح السياسي في أي مشروع سياسي؛ لأن الهدف الأساسي من عملية الإصلاح هو تحقيق فائدة للطرفين ( الوطن، والمواطن ) .
ومن شروط النظام الديمقراطي الناجح لتحقيق المواطنة:
احترام حقوق الإنسان، والتعددية السياسية، واحترام مبدأ الأغلبية السياسية، والتداول السلمي للسلطة ،والمساواة السياسية، ووجود دولة مؤسسات قانونية.
ومن أركان النظام الديمقراطي :
المواطنة، وسيادة الشعب ، والمشاركة السياسية ،وإجراء انتخابات حرَّة نزيهة،و حكم الأغلبية التي حصلت على أكبر عدد من الأصوات، والمقاعد، وحقوق الأقليات (المكونات)، والمساواة أمام القانون، والمعارضة السياسية، والتعدّدية السياسية، والاجتماعية، والفصل بين السلطات(التشريعية، والتنفيذية، والقضائية)، واحترام حقوق الإنسان ، والشرعية الدستورية.
إن تأصيل المواطنة يقوم على مجموعة من القيم المشتركة التي تمثل انتماء الإنسان إلى كيانات بشرية، وشعور بالانتماء إليهم على اختلاف تنوعهم الديني، والمذهبي ، والعرقي، ويتّحد هذا الشعور، والإحساس في مكان ما، وهو (الوطن) .
وبما أن المواطنة هي عملية مستمرة لكونها عنصرًا أساسيًا في عملية الاندماج الاجتماعي التي تسمح للمواطنين جميعهم بالحصول على الهوية الوطنية، والحقوق السياسية، والقانونية المرتبطة بها.
ومن الجدير بالذكر بأن مفهوم المواطنة في الأزمنة الغابرة كان صورة دائمة للاستعباد، وعدم المساواة، فقد ظلّ الرجال، والنساء – على سبيل المثال – مستبعدين من نيل حقوقهما حتى انتهى زمن العبودية، وحصلت النساء على حقوق المواطنة، ومن ثَمَّ بقي المفهوم مرتبطًا بصورة ذلك الاستعباد عبر التفرقة بين أبناء الوطن الواحد، وبقية سكان الدولة
من المواطنين.
فالمواطنة هي التعبير القانوني عن الوجود السياسي للوطن، والمواطن، وهي حجر الزاوية لتطوير الوطن ابتداءً من نظامه السياسي، والاجتماعي، والاقتصادي، وامتدادًا للنهوض الثقافي، والارتقاء الحضاري، وتتجلّى المواطنة في أرقى صورها لارتباطها بالاستقلال الوطني، وتظهر بتثبيت الحقوق السياسية جميعها للمواطن .
وهناك اختلاف بين المواطنة، والهوية فالمواطنة انتساب جغرافي إلى بلد ما، والهوية انتساب ثقافي إلى أعراق، ومعتقدات، وقيم ومعايير معينة .
كما أن المواطنة تختلف عن الوطنية، فأن الوطنية هي الإطار الفكري للمواطنة ، فالوطنية عملية فكرية، أما المواطنة فهي ممارسة عملية.
ومصطلح المواطنة غربي نشأ، وترعرع في اليونان، وروما، وجرى استعماله في الدول المدنية الصغيرة بأوروپا في العصور الوسطى، ثم امتد استعماله بشكل هائل في المجتمعات الرأسمالية في القرنين التاسع عشر، والعشرين.
ترجع جذور المواطنة كقيمة سياسية إلى الفكر السياسي الذي كان سائدًا باليونان في القرنين الخامس والسادس قبل الميلاد، والاعتقاد بأن انخراط الأفراد في الشأن العام هو جوهر أساسي من وجود الفرد، ومن حياته الإنسانية.
والمواطنة هي القاعدة الأساسية التي تنطلق منها المطالبة بالديمقراطية، وليس الغرض الوصول إلى السلطة، فحسب؛ بل لغرض ممارسة الديمقراطية، وتوسيع مفهوم المواطنة نفسه .
ومن أهم مرتكزات المواطنة :
– المساواة : وهي من القيم الأساسية في المجتمع الإنساني .
– العدالة: العدل هو أساس الدول .
– الحرية: تشتمل على حرية الاعتقاد، والتعبير عن الرأي سلميًا، والتنقّل داخل الوطن.
– المشاركة: تشمل التصويت في الانتخابات العامة بكافة أشكالها، والترشيح في الانتخابات، وتأسيس الأحزاب السياسية، ومنظمات المجتمع المدني التي تخدم المجتمع .
– المسؤولية الاجتماعية:تتمثل في العديد من الواجبات كاحترام القانون ودفع الضرائب وأداء الخدمة العسكرية … إلخ.
– تكافؤ الفرص : هو مبدأ يؤكد على ضرورة تمتع أي شخص بالحق في العمل، والترقية على أساس الخبرة، والجدارة بعيدًا عن العرق، أو الدين، أو الجنس، أو عمر، أو أي عامل آخر.
– التعدد والتنوع : عملية تعايش عدد مختلف من الثقافات مع بعضها البعض في المجتمع ذاته، بطريقة تجعل كلّ طرفٍ يحترم ثقافة الآخر.
عناصر المواطنة:
1- الانتماء: يمثل الانتماء شعور داخلي لدى الفرد بأنه ينتسب إلى وطن معين.
ويتكوّن الانتماء من الأبعاد الآتية: (الهوية، والتعاون الجماعي، والولاء، والالتزام،
والديمقراطية)
2- الولاء .
3- الحقوق.
4- الواجبات .
5- الديمقراطية .
مهددات قيم المواطنة :
إن أبرز مهددات قيم المواطنة في النظام الديمقراطي هي :المهددات الثقافية لقيم المواطنة، والمهددات الديموغرافية، والاقتصادية، والسياسية، والمهددات الاجتماعية.
إن المواطنة مرتبط ارتباطًا مباشرًا بالممارسة الديمقراطية، فضلًا عن أن الأجواء السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية التي فرضتها العولمة تحتم ضرورة ترسيخ حقوق المواطنة بوصفها ( صمام أمان ) يرعى مصالح المواطنين، ويحفظ حرياتهم من دون أدنى تفرقة للشرائح الاجتماعية، أو الفئوية التي ينتمون إليها .
هناك خلط بين مفهوم الانتماء، والولاء ،فالفرق بين الانتماء، والولاء واضح كوضوج الشمس في رابعة النهار :
الانتماء صفة يكتسبها الإنسان بحكم الولادة بمكان ما، أو الإقامة لفترات طويلة أما الولاء فهي صفة نكتسبها مع مرور الوقت بمواقف، وذكريات، وأحداث تخلق لدينا حالة من الحب، والعشق لهذا المكان مما يجعلنا نبذل الغالي، والنفيس من أجل الحفاظ على هذا المكان الذي يسمّى الوطن
ربما تكون غير مقتنع بانتمائك وتكون ناقمًا عليه، لكن الولاء يكون عن قناعة شخصية، وحب ونتاج مواقف كثيرة وتضحيات جسيمة !
قد تنتمي لوطن ما لكن ليس بالضرورة أن ولاءك له، بل الانتماء إذا تعارض مع الولاء قد يجعلك تحزن على الانتماء لهذا المكان، فقد ينتمي إنسان لوطن لكن ولاءه لوطن آخر، وهذه خيانة عظمى !
ويمكننا القول بأن المواطنة قد مرت بثلاث مراحل أسياسية :
ففي القرن الثامن عشر شملت المساواة أمام القانون، والحرية الشخصية، والفكرية، والملكية، وإبرام العقود، وسُمَّيت بالمواطنة المدنية .
أمّا في القرن التاسع عشر، فقد اشتملت على حق التصويت، وحق تقليد المناصب، وعُرفت بالمواطنة السياسية.
أمّا في القرن العشرين، فقد اشتملت على الرعاية الاجتماعية، والمشاركة الوطنية، وعُرفت بالمواطنة الاجتماعية.
ويعدّ إعداد المواطنة الصالحة هدفًا من أهداف الدولة الديمقراطية، والمجتمع الديمقراطي، فهنا نتساءل؛ هل العراق الديمقراطي عَمِل على إعداد المواطنة الصالحة من خلال المؤسسات الحكومية والإعلامية بعد سقوط النظام البائد الاستبدادي بعد عام (2003) ؟!
ومن المؤسف جدًا أن الأنظمة التي حكمت دول المنطقة إبان استقلالها تحت عناوين، وشعارات برّاقة (الجمهورية)، و(الديمقراطية)، و(الحرية)، وغيرها من الشعارات التي أعطت للمواطن أملًا كبيرًا بفجر جديد بازغ، والبدء بمرحلة سياسية جديدة قبل أن تتحوّل إلى شعارات فارغة من المحتوى، وأضغاث أحلام، فقد قلبت تلك الأنظمة الشعارات رأسًا على عقب بعد أن تخلت عن تلك الشعارات التي عقد المواطنون الآمال عليها بتطبيق تلك الشعارات ؛ ولهذا السبب الرئيس نجد بين الحين والآخر خروج المواطنين بمظاهرات احتجاجية في العراق مطالبين بحقوقهم المشروعة وفق أسس المواطنة من حيث إيجاد فرص التعيينات، والخدمات الأساسية ، وانعدام البنى التحتية ، وتراجع كبير على المستوى التربوي، والتعليمي، والزراعي، والصحي، والاقتصادي، والوضع الأمني المنفلت … إلخ.
هل عمل النظام الديمقراطي في العراق على ترسيخ ثقافة المواطنة بين أبناء البلد الواحد على مدى عشرين سنة منصرمة بعيدًا عن القومية، و الدين، والمذهب ؟!
هل هناك مقاصد حقيقية لتحقيق المواطنة في المجتمع العراقي من قبل الساسة، أو أن مسألة مجرد شعارات تُطلق في المناسبات، وعبر الفضائيات الحزبية ؟!
هل يمكن تحقيق المواطنة في ظل وجود الأسلحة المنفلتة، وجماعات مسلحة خارجة عن سيطرة الدولة تهدد الأمن، والسلم المجتمعي ؟!