علي حسن فواز
ماذا تعني استعادة شاعر بامتياز سركون بولص في ظل منافٍ عراقية باتت تصنع شعراء عالقين على سطوح الذاكرة؟! وهل تعني هذه الاستعادة الدعوة لقراءة ظاهرة المنفى الشعري، ام عذابات الشعراء المطرودين، ام الاخلاص الى تجربة سركون ذاته باعتباره أحد مجددي القصيدة العراقية؟!
فهل يمكن في هذا السياق ان يمثل الشاعر سركون بولص ظاهرة شعرية استثنائية وسط فضاءات شعرية مزدحمة بالظواهر؟ وهل يمكن ان تكوّن حياته الحافلة بتحولات عميقة وصدمات فادحة أثرا باعثا على قراءة تاريخ لسيرورات شعرية مكشوفة على تعريات فادحة، خاصة ان الستينيات من القرن الماضي كانت زمنا سياسيا وثقافيا محمولا على استعدادات لصناعة هذه الصدمات والتعريات وما يقابلها من النقائض والاحتجاجات والهزائم. سركون بولص اصطنع لنفسه منذ البدء هامشا فاعلا، هامشا وسط جماعة كركوك التي ضمت مجموعة من المثقفين الملتبسين بهاجس المكان واللغة والحلم ومنهم (فاضل العزاوي، مؤيد الراوي، جان دمو، انور الغساني، جليل القيسي، يوسف الحيدري، صلاح فائق، سركون بولص) فضلا عن هامش آخر وسط جيل الستينيات الصاخب والفعال في آن والذي كان يعيش اغترابات التحول العميق في الحياة والكتابة والوعي. .
الشاعر سركون بولص امتهن الهروب نحو الحلم، نحو ذاته المهووسة الباحثة اللجوجة، نحو اكتشاف العالم بواسطة المزاج او بواسطة التمرد عليه، وربما اراد عبر الافراط بأحلامه ان يتلبس قناعاً يشبه الى حدّ ما قناع احمد بن فضلان ويرحل الى ما هو متسع، بحثا عن حريته، تلك التي تلمس الطريق الى قلقها في رحلته الوجودية نحو الشمال البارد والضاج، الشمالي الاستعماري، الشمال المعرفي والانساني ليرسم خارطة سرية للغة والجسد كي يتوغل فيهما عاليا نحو عوالم تتيح له ارتكاب المزيد من صناعة الاوهام والغوايات، تلك التي كانت تدفعه للذهاب بعيداً نحو اللامكان، خاصة ان الفضاءات السياسية في العراق بدت اكثر انهاكا وقهرا وبالطريقة التي لم تتح للشاعر ان يمارس غوايات هامشه الشعري، ولعل مجموعته الأولى (الوصول الى مدينة اين) هي الهاجس القلق الذي القى به الى هذه المتاهة، وشهوة البحث عن الذات الضائعة، تلك التي جعلته يجر الموت معه، او يجرّ الحياة وراءه كما قال انسي الحاج..
التحولات الشعرية في قصائد سركون بولص ارتهنت بتحولات وعيه العميق، فهو ادرك مبكراً هواجس القصيدة الجديدة واسئلتها، اذ التمس ما حملته قصائد جماعة البيتنكس في اميركا خاصة الشعراء (الن غيسنبرك، جاك كروال، بوب كوفمن وغيرهم) نوعا من الدهشة التي اثارت لديه شجن البحث عن الحرية العميقة، حريته الشخصية التي تستغوره روحه اللائبة، التائهة كاي اشوري يبحث عن ملحمة وجوده الشخصي، وهذا النزوع الى هاجس مطاردة ملحمته الشخصية هو اكثر البواعث النفسية والوجودية الدافعة لبحثه عن الموت، وكأن هذا الموت هو حياته الاكثر بهجة والاكثر اشراقا، فهو يكتب بلغة شفيفة، مفتوحة، متراخية مرثاته للعالم، للجسد، للذة، للبلاد، للمنفى، للأصدقاء الذين يرحلون عنوة.
(حبلُ السُرّة أم حبل المراثي؟
لا مهرب: فالأرض ستربطنا إلى خصرها
ولن تترك لنا أن نُفلت، مثل أم مفجوعة، حتى النهاية
كل يوم من أيامنا، في هذه الأيام، جمعة حزينة
ويأتيني في الجمعة هذه خبرٌ بأن البريكان
مات مطعوناً بخنجر في البصرة
حيث تكاثر اللصوص وصار القتلة يبحثون عن.. يبحثون، عمَّ صار يبحث القتلة؟
ان انغمار سركون بولص بهذه الكتابة التي لا تطمئن لاي معيار، يجعل انفتاحه على البنية النثرية، اشبه بالانفتاح على الحياة بكل هوسها وعنفها، تلك التي يقول عنها ساخطا (انا الدودة الحية في تفاحة العالم) وهذا ليس توصيفا لمعنى حسي بقدر ما هو محاولة لإيجاد تكامل بين نزعته للحياة ونزعته للموت، اذ تكون الكتابة بصوت عال هي رغبة حميمة في الكشف عما في ذاته المضطربة من جنوح وجموح وتمرد وصخب، تلك التي جعلته وهو الشاعر الكسول مليئا بالحياة، والصانع الاستثنائي لطبخات النثر الشعري، المسكون بالاختلاف، ينشد رغم كل هوسه وتمرده الى نوبات عاتية من الحنين، تلك تجعله قريبا من كركوك التي أحب، وقلقا ازاء سان فرانسسكو التي اطلق فيها حماماته ،فكم هو قاس هذا المنفى الذي يتسع ،في الوقت الذي يضيق فيه الشاعر حدّ الموت.
فما كان عليه ان يفعله سوى ان يواصل الهروب امامه، وان تقتفي أثر الريح لتلحق اشياءه الهاربة، البلاد، السنوات، القصائد التي انسلت مثل فصوص الماء، والمرأة التي كنت تشتهي بوحها وضجيجها، ربما كانت تشبه نساء غويا فالتات من الزمن ونافرات من الاصابع..
المنفى اصطنع عند سركون بولص وحشة مبكرة للموت، اذ يمط زمنه الفيزيقي مثلما يمطّ الساعات، هو لا يصنع له مزاج الشاعر الكوني، ولا الشاعر الصعلوك او الشاعر الهروبي، وانما يضعه امام لعبة اقتفاء الاثر، اثر روحه اللجوجة التي تبحث عن صوتها القديم الهارب، مثلما لا يبحث عن كنوز ضائعة او ادوار للفروسية، فالأرض وزعها الابطال والملوك ورؤساء الجمهوريات والطغاة والغزاة على مريديهم، واصبح الشعراء متورطين بالحلم والركض وراء (عظمة اخرى لكلب القبيلة) كما اكتشف في قصائده الاخيرة..
القصيدة بدت اشبه بقطعة الارض المباحة، تحتاج الى اختام الطابو واختام صاحب الحاكمية لكي تحظى بشرعيتها ونوع ملكيتها، تلك القصيدة اختصرت دوره في رثاء العالم، لأنه لم يعد يؤمن بزمن الشعراء الكونيين، بقدر ايمانه بزمن الشعراء الموتى. هذه الهواجس اخذت تطارده كثيرا، تدخله في علاقات مربكة، وربما تضع قصيده وكأنها نداؤه العميق الذي يسحبه الى غوايات من السحر الروحي والوجداني الذي يهب عزلته نوعا من التوهج، واحيانا نوعا من العفوية، تلك التي تلامس التفاصيل الصغيرة والمهملة، لكنها تملك في رؤيته الكثير من هذا التوهج القريب من فكرة المعنى الذي تمنحه القصيدة بعض حضوره، لان هذه القصيدة ترهن نفسها لوعي الشاعر ولتحولاته، واحيانا لصوته الانسي العميق الذي لاتبدو فيه الرموز والاستعارات حاضرة بقوة قدر حضور الوقائع واشاراتها، التي تكتظ بمراثي الانسان وحروبه وميتاته العبثية.
(كم ساحة معركة
مر بها تصفر فيها الريح
عظام الفارس فيها اختلطت بعظام حصانه والعشب سرعان ما أخفى البقية
نار تتدفأ عليها يدان بينما الرأس يتدلى والقلب حطب
هو الذي بدأ بالتيه في العشرين
لم يجد مكاناً يستقر فيه حتى النهاية
حيثما كان، كانت الحرب وأوزارها)
في قصائد سركون بولص تبدو ثنائية الموت والحياة والحضور الغياب أكثر تجليا، لأنها الحافز على الاستعادة، ولأنها المثير النفسي على استحضار صراعات عميقة تجعله دائما في نوبة من التهيج، هذا التهيج الذي يمثل المعادلة النفسية التي تغمر احساسه وكتابته، وتجعله امام غواية مفتوحة في الوصول الى المعنى التائه الذي يشبهه، ففي قصيدة الكرسي يستحضر جده الرمزي عبر رمزية اوروك، في اشارة الى الاهتزاز الذي يشبه قلقه وتقلبه..
(كرسيّ جدي ما زال يهتز على أسوار أوروك
تحتهُ يعبر النهر، يتقلب فيه الأحياء والموتى)
حساسية سركون المفرطة هي التي صنعت قلقه البوهيمي، واغوته كثيرا بالاندفاع نحو الكتابة التي لا تكتمل الاّ باقتراح المزيد من البحث والهروب بعيدا باتجاهات لا حدود معروفة لها، واحسب ان اغلب مجموعاته الشعرية(الوصول الى مدينة اين 1985، الحياة قرب الاكربول 1988، الاول والتالي 1992، حامل الفانوس في ليل الذئاب 1996، اذا كنت نائما في مركب نوح 1998، ومجموعته الاخيرة الصادرة عن دار الجمل بعنوان/عظمة اخرى لكلب القبيلة) تحمل هاجس البحث، وهاجس الاطمئنان، ذلك الذي يصيبه بالرعب من الأمكنة، والمصير والوجود. وعلى مستوى انشغالات قصيدة سركون بولص الفنية، نجده اكثر انحيازا الى تجديدات تخص كليات الكتابة الشعرية، فهو يضع همّه الوجود الضاغط بمثابة وعي جمالي يدفع باتجاه التكامل بين بناء القصيدة وبناء الوعي منها، وهذا ما جعل قصيدته امام مقترحات متعددة للقراءة، خاصة تلك القراءة التي رافقت الحديث العاصف عن اشكالات الحداثة وهموم التحول الشعري في الستينيات وما تلاها، تلك التي بدأت تبحث في بنية القصيدة عن بنيات مضمرة، تستكشف ايقاع الحياة وطاقة الكلام، وسحرية الرؤيا، والتي جعلت القصيدة امام جماليات متعددة بدءا من جماليات هيكلها البنائي النافر، وانتهاء بانفتاحها غير المنضبط لأية معيارية شعرية، وهذا الاشتغال الشعري هو الذي جعل سركون (احد حاملي تطوير مقترحات شعرية ايقاعية نابعة من شعريات النثر ذاته بوصفه الوسيط الخطابي في الكتابة الشعرية) كما يقول صبحي حديدي.
يقول سركون في قصيدة (الى امرؤ القيس) ما يجعل لعبته في توظيف الثنائيات المتواصلة (الموت/الحياة، الليل/النور) وكأنها لعبة القدح التي تتفجر من خلالها التوهجات، او الاصوات الخبيئة التي يكتنزها النثر، فالإصغاء يقابله غناء الصحراء، وصوت اميركا دائما يبعث على استعادة قوى عميقة، هي قوة الاثر، والذات، تلك التي تقول انها دائما هناك!
أصغي/
لكي أسمع الصحراء تغنّي/
وليس صهيل أمريكا المتعالي كألف حصان جريح/
من حولي، إلي عصر آخر سَفّته يدٌ قويةٌ من الرمل/
في ذلك الفم الفاغر للزمن حيث الأطلالُ/ دائماً بانتظار/
المناسبات/
بسقْط اللوي، بين الدَخُول فحَوْمَلِ. إنها دائماً هناك
شعرية سركون بولص تملك في سياق مغامرتها الجريئة هذا النزوع المباشر للتجاوز، وعدم الخضوع لإشاعات القصيدة التي ارتبطت بالأجيال، او حتى بالآثار التي اصطدم بها في رحلاته الدائبة، فهو ينغمر بما يكتشفه وبما يلتذ به، وبما يمنحه احساسا غامرا بالألم، هذا الالم الوجودي الباعث على المتعة، وهذا الانغمار الشعري هو الذي جعل سركون أكثر انحيازا لذاته، تلك الذات التي ترى ما يراه الغائب، وتستعيد ما ينفعل تحت الكلام والبوح والاعتراف.. قصيدته مسكونة بهذا الانفعال الذي يوهبه هذا الجموح والتدفق وأحيانا الفوضى، فهو لا يؤمن بالوصول قدر ايمانه بالطرق التي تحتفي به، الطرق التي تساكنه بلذة الاكتشاف والرحيل والبحث عن الاثر الذي قد لا يكون موجودا، القصيدة هي حيازة التفاصيل، الشهادات، اليوميات، وهي التركيب الضاج الذي يجعل هذه الحياة قابلة للحياة، والمضادة للموت، القابلة لإثارة الغواية على استحضار اللذة الكامنة في التفاصيل، والمناقضة لفكرة الغياب.
وفي قصيدة (قصيدة: شاي مع مؤيد الراوي) نستعيد هذه الثنائية، الحضور/الغياب، وكذلك نستعيد التفاصيل التي تمنح الاستعادة التوهج الذي يشبه الحياة تماما..
– أمامنا علب السجائر/
– تلك الذخيرة../
– من حولنا لغط المهاجرين،
– صفق الدومينو المتتالي/ على رخام الموائد،
– ضوضاء كانت أليفة ذات يوم ربما/
– انبثقت منها مرة أخرى/
– وسط الدخان كلمة ولدت هناك ولا تريد أن تموت هنا/
– ان لم نقلها نحن من
يقولها/ومن نحن ان لم نقلها