د. جمال العتابي
بعناية وحذر شديدين اخترت الكتابة عن محمد الملا عبد الكريم لأنه ينتمي لجيل يصعب نسيانه، أسهم في ارساء الاسس الديمقراطية والحرة للثقافة العراقية في مطلع السبعينيات التقينا تحت سقف واحد، كانت البدايات الاولى لي للعمل في الصحافة، في جريدة الفكر الجديد، التجربة تلك خلقها بيان اذار 1970 ومنح الصحافة هامشا من الحرية، وبعض الاحزاب السياسية فرصة اصدار جريدة باللغتين العربية والكردية.
استمر صدور الفكر الجديد الى نهاية السبعينيات واحتوت اقلاماً كبيرة ومهمة مثل سعدي يوسف، رشدي العامل، شمران الياسري، محمد كريم فتح الله، فائق بطي، وكانت مشروعا ثقافيا فتح ابوابه واشرعته للإبداع، وبقعة التقت فيها الاماني والصبوات لجيل من الشباب بدأ توا يتلمس طريقه نحو الكتابة الجادة في اجناس ادبية مختلفة فانضم للأسرة هاشم شفيق، عبد الله صخي، سامي محمد، شاكر لعيبي، مخلص خليل وغيرهم
هل بمقدوري الان بعد كل تلك العقود العجاف ان اعبر بوضوح وكثافة عن منجز (ملا كريم) الذي يمتد الى نصف قرن بالكامل أو ابقى مراقبا انتظر اللحظة المناسبة والزمن يجري سريعا لأسجل حقيقة كنت أمني النفس ان استعيدها خشية الضياع ام ان الحاجة تبرز الان، لإضاءة حياة هذا الباحث المجد بكل حضورها الابداعي ومنجزها، وسيرورتها التي يزيدها ملا كريم ترسيخا واصالة.
(محمد ملا كريم) شهرته، لا يميل الى ذكر عائلته او نسبه ويكتفي بهذا التواضع على الرغم من انه يمتلك جذره التاريخي المتين فهو نتاج عائلة العلم والدين ونجل العلامة الكبير عبدالكريم المدرس، وبفضل هذه الرموز نال العراق المنزلة الرفيعة في التقدم والازدهار ولأنه ابن هذا الطقس الجليل توطدت صلته بالتراث والعصر معا وامتلأ بالحس الانساني وتنوعت تجاربه بتنوع الحياة التي خاضها، نتاج غزير متواصل مترع بالبحث والمتابعة بجد لحراك المشهدين الثقافي والاعلامي القادر على حسن الاختيار والمؤهل للرصانة الابداعية المتمكن من ادواته بمهارة فائقة.
(محمد ملا كريم) ما زال يحلم بمكان يلتقط فيه الصور المثلى، قرر اخيرا ان يكمل رسم لوحته وهو يقول وداعا لبغداد، لأنها ما عادت تتسع لمبدعيها وعلمائها وناسها الطيبين، بغداد التي لم يقايض فيها (محمد) المغريات وظل يجوب شوارعها ومكتباتها واسواقها ويتطلع الى معالمها ويروي قصص اهلها مدافعا عن فقرائها خارج دائرة المساومات، بغداد والعراق، واحاول هنا قدر المستطاع ان لا انسب ملا كريم الا اليهما، لانهما رمزه الوديع وشبابه واصدقاؤه وثوابته العديدة.
أحب بغداد وهو ابن كوردستان وظل جزءا من مكوناتها، عاش فيها مفعماً بمحبتها، لكنه وهو يرى على ظهرها سيلاً من الدماء تسيح من جروح عميقة اثر طعنة نصل سكين حاد واهوج، يتطلع الى هذا المشهد الدامي من غرفة ذات ستائر خفيفة ضجت برزم الصحف والكتب التي افترشت بلاطات الغرفة الضيقة تنتظر هي الاخرى ان تغادر المكان الذي نبتت فيه.
سألت محمداً وانا احاول ان اجد موطئ قدم بين اكداس ومجلدات الصحف المعدة للرحيل فأجاب: انها ذاكرة الصحافة العراقية جمعتها بعناية وصبر وحذر وخوف من اول الاعداد التي صدرت للعديد من الصحف، انه ارشيف تلك السنوات وتاريخها التي غاب فيها اصدقاؤه واحدا واحدا، كنز يحلق به عاليا يزيده اقترابا من مبتغاه في سماء شاسعة لا تحدها حدود، فتراه يزداد قلقا اذ يرى انه ما يزال يتطلع الى من يواصل هذا الجهد الرائع والدؤوب ليحميه على الاقل من ان تمتد اليه اياد عابثة او بليدة .
عرفت محمداً بصلابة موقفه فهو ليس من الطراز الذي يعمل بنظرية جبر الخواطر، لا يخشى في الحق لومة لائم لا يجامل على الحقيقة او يساوم متأن دقيق الملاحظة والعبارة.
اجتاحت جسده النحيل امراض المفاصل وتقوس القامة، الا انه يقاوم وهن الظهر بالانكباب المتواصل على الكتاب، وتحكي عكازه معاناة عاشها، وان تركت اثارها واضحة في حياته الا انها لم تشطب على احلامه المؤجلة.
(محمد ملا كريم) ظاهرة ثقافية وفكر نير متجدد يحمل من صفاء الروح والعقل هي عدته ومادته، تفرد بتأنيه ودقته وصرامته في البحث فضلا عن موقفه الانساني المنحاز الى قيم الجمال والسلام فلم يهرب من هذا القدر خلال العقود الماضية حين سقط الكثير من المثقفين في الوحل ومسخت السلطة الكثير فكان ينأى بنفسه بعيدا يتحمل الكثير من التبعات لوضوح الموقف وجرأته الى جانب العدالة ورد القمع في كل الازمان فحافظ على نقاء السريرة وخياره الحر الذي كابد من اجله ليبقى.
كان أحد أعضاء المجمع العلمي العراقي والكوردي. وقد ناهزت مؤلفاته واسهاماته الفكرية والأدبية الـ 100 كتاب في مجالات شتى وبأكثر من لغة
وقد ارداه المرض طريح الفراش في أواخر سنوات عمره، وتوفي بسببه في مدينة السليمانية في صباحِ 12 مارس عام 2017، ودفن في مقبرة سيوان بجانب مقبرة الشاعر الكردي الكبير گوران.