الشاعرة والروائية المغربية مليكة مزان لجريدة خبات:
لا يمكن قياس إنسانية أي أدب معاصر إلا بمدى انفتاحه على مآسي الشعب الكوردي العظيم!
(حوار أنجزته الصحافية آشتي شهباز)
ـ س: يتسم الأدب النسوي (بوصفه صوتَ شريحةٍ مهمشةٍ) بطابعه الإنساني العابر للحدود القومية والثقافية. في أعمالك تركيز خاص على القـﻀية التحررية للشعب الكوردي، هل تعتقدين أن التهميش هو ما يوحد صوتك الأنثوي بتلك القـﻀية أم أن لك وجهة نظر أخرى؟
ـ ج: الأدب في ما يسمى لدينا تعسفا بــ “العالم العربي الإسلامي”، ونسويا كان أم رجاليا، لم يحصل له شرف عبور أي حدود، ولا سبق له أن ارتقى بنفسه لمراتب أي إنسانية حقة إلا من خلال تجارب يتيمة تعد على أصابع اليد الواحدة!
ﺫاك أنه أدب ـــ بدل أن يكون متسامحا مع كل آخر مختلف في العرق واللغة والثقافة، منفتحا على قـﻀايا هـﺬا الآخر القومية الخاصة ـــ أبى، بسبب قناعات أصحابه الإيديولوجية العنصرية، إلا أن يركز على قـﻀايا دون غيرها، قـﻀايا هي بالأساس قـﻀايا مفتعلة لا تملك من الوﺿوح ولا من العدالة ـــ مقارنة مع القـﻀية الكوردية ـــ إلا ما تروج له كل دعاية إعلامية عنصرية.
بلغة أكثر إيجازا، كما أكثر إنصافا، لا يمكن قياس إنسانية أي أدب معاصر (من أي جنسية، من أي ثقافة، من أي نوع، كان) إلا بمدى انفتاحه على مآسي الشعب الكوردي العظيم، إلا بقدر سعيه الجاد لإعادة الاعتبار لهكـﺬا شعب مـﻀـطهد ﺿدا على كل ثقافة همجية، ﺿدا على أي نظام مستبد، ﺿدا على المجتمع الدولي الـﺬي تأبى ترسانته القانونية إلا أن تكيل بمكيالين كلما تعلق الأمر بالحق الطبيعي الشرعي للشعب الكوردي في الوجود والحياة، في التحرر والكرامة، كما في الأمن والسلام!
وعيا مني بالواقع اللاأخلاقي لأدب عربي إسلامي معاصر، أدب عديم الـﻀمير والإحساس، أدب حقير القناعات والغايات.. جاء مشروعي الأدبي المـﻀاد (الروائي منه بشكل خاص) مركزا على القـﻀية التحررية للشعب الكوردي بالأساس.
ـ س: أدب السجون أدب رجالي في الغالب، وأعمالك المنتمية لهـﺬا الأدب تشكل نوعا ما استثناءﹰ، كيف تنظرين لهـﺬا الجانب من تجربتك في الكتابة؟
ـ ج: أدب السجون لدينا أدب نسوي بامتياز، فأغلب ما كتبته نساؤنا لحد الآن يمكن اعتباره أدبﹶ سجون، وليس فقط ما كتبته أنا شخصيا، وﺫاك لسبب واقعي وجيه هو أن “عالمنا العربي الإسلامي” بثقافته الـﺫكورية الهمجية، فـﻀـلا عن أنظمته الاستبدادية الوحشية، لا يمكن أن يكون بالنسبة لأي امرأة تحترم عقلها إلا ﺫاك السجن الكبير، فكيف لا يكون كـﺬلك إن كانت امرأة من وزن وعيي بمدى قسوة هكـﺬا عالم، كما من صنف تمردي وانقلابي عليه!
شخصيا.. لم أحس أبدا أني كاتبة كاملة السيادة إلا حين اقترفت جرأتي العالية وانتفـﺿت انتفاﺿـتي التاريخية، إلا حين حملت معاولي وشرعت أحطم جدران هكـﺬا سجن، وصرت أقتلع عيون كل أصنامه البغيـﻀـة المقرفة!
أما حين دخلت في بلدي المغرب ما أسميه بالسجن الصغير أثناء تنظيم السيد مسعود البارزاني رئيس جنوب كوردستان آنـﺬاك لـﺫاك الاستفتاء المجيد حول حق الكورد في التحرر وتقرير المصير، وعلى إثر صرختي القوية الشجاعة بأننا في شمال إفريقيا لن نسمح أبدا لأي كان بمزيد من إبادة الشعب الكوردي العظيم.. فقد بدأتْ بالنسبة لي ساعتها فقط حياة كل تحرر حقيقي!
ـ س: قرأتُ أعمالا للروائية الجزائرية أحلام مستغانمي، وأرى تشابها بينكما في طريقة الكتابة: جمل شعرية قصيرة مشحونة بتوتر عال، ارتفاع صوت الداخل عن طريق توظيف الـﺬات الساردة في إنجاز النص… هل هﺬه سمة مميزة للسرد النسوي المغاربي؟
ـ ج: الواقع أنها ليست سمة خاصة بالسرد النسوي المغاربي بقدر ما هي سمة كل نص ـــ نسويا كان أو رجاليا ـــ بدأ مساره الوجودي كنص شعري أساسا، ثم لم يستطع إلا أن يمـﻀـي وفيا لهويته الإبداعية الأصل، مع العلم أن الكتابة السردية بنفَس شعري إنجاز إبداعي في غاية الصعوبة لا يتحقق إلا للمتمكنين من الكتاب والمبدعين.
شخصيا انبثق مشروعي الأدبي أول ما انبثق بنفَس شعري قوي، نفَس صار في ما بعد تلك “اللعنة” الفنية التي ما كان لي أن أتحرر من قبـﻀـتها الجمالية، ولا أن أستغني عن خدماتها الجليلة في أي نص سردي كتبته لحد الآن، بل وأردت له من القوة والإتقان ما أرفع به عاليا صوت الشعب الكوردي الـﺬي ليس أصلا غير صوت الحق والخير والجمال!
ـ س: في أدب الأقليات ربما بسبب المعاناة.. ثمة تـﻀخيم للـﺬات، ثمة نوع من التمرئي المستمر يفـﻀـي غالبا إلى أدب مؤقت التأثير، أدب محدود الانتشار، أدب يموت بموت القـﻀية. كيف تنظرين إلى أعمالك من هـﺬه الزاوية؟
ـ ج: واقعيا وبدءاً ليس هناك من أقليات حقيقية غير الأقلية العربية في ما يسمى بالوطن العربي، والأقلية الفارسية في إيران، والأقلية التركية في كل من تركيا والعراق، أقليات عربية وفارسية وتركية تحولت بقدرة الإيديولوجيا الكاسرة للحدود، أو قوة السلطة السياسية والعسكرية الـﻀـاربة بقبـﻀـة من حديد، إلى أغلبية مهيمنة دون شرعية مقنعة، ولا وجه حق وقانون.
والحال هـﺬه.. فإن الأدب الـﺬي نكتبه انتصارا لقـﻀـايانا ـــ نحن مثقفي الشعوب الأصلية الرافـﻀـين لكل أشكال الإبادة في حق لغاتنا وثقافاتنا ـــ هو في الواقع أدب أغلبية مـﻀـطهدة، لا أدب أقلية تعاني من تـﻀـخيم غير مستحق ليس إلا.
وعليه فإن أدبنا ليس له أن يكون أدبا مؤقت التأثير إلا لدى المُستلَب وعيُــهم، أو لدى الخائنين لقـﻀايا شعبهم وأرﺿهم، أو لدى الصماء قلوبهم وﺿـمائرهم دون حقوق وحريات أي شعب أصلي شرعي الوجود والمقاومة.
كما أنه أدب ليس له أن يمـﺿـي محدودﹶ الانتشار إلا بتجاهل من دور النشر العنصرية، إلا بتواطؤ من قنوات الإعلام المسيس المأجور، إلا بتهميش من طرف الملتقيات الأدبية المنغلقة على نفسها، الرافـﻀـة للخطابات الأدبية الأخرى التي لا تتماهى مع أهداف خطابها الإقصائي العنصري المريـﺽ.
إن الأدب الـﺬي نكتبه ـــ نحن الـﺬين انتبهنا لمخططات الإبادة التي ما تزال تُقتــرَف في حق شعوبنا وثقافاتنا ـــ أدب لن يموت بموت القـﻀـايا التي يدافع عنها. كيف له أن يموت وقـﻀـاياه أصلا قـﻀـايا شعوب ﺿاربة بجـﺬورها في عمق الأرﺽ والتاريخ، شعوب ﺫات حق طبيعي في الحياة والوجود، شعوب متطلعة بقلوبها وأبصارها ـــ وبما ينبغي من إيمان وإصرار وعناد، إلى الأفق الواعد بكثير من إنجازات الكفاح والصمود؟!
علمنا التاريخ، سيدتي، أن مَن يموت هو الطغيان وزبانيته، هو الباطل وصولاته. فقد هلك كثير من الأبالسة الـﺬين خططوا لإبادة الشعب الكوردي بكل ما يتقنونه من وﺿاعة ونـﺬالة، وبقي الشعب الكوردي شامخا، متربعا على عرش وجوده وقـﻀـيته العادلة.
الموت، سيدتي، خيار لا يكون أبدا إلا بيد الشعوب نفسها. ولا أظن أننا كشعوب أصلية عريقة في المنطقة ـــ وبعد هﺬا المسار الطويل من الصمود والنـﻀال، وبعد كل هـﺫا الكم الهائل من الـﻀحايا والشهداء ـــ سنختار الموت والفناء فقط ليرث الوحشيون والفاسدون من حولنا كل جغرافية لنا بهية الوجود والعطاء.
ـ س: كثيرا ما عانى الأدباء الجزائريون الـﺬين كتبوا أعمالهم باللغة الفرنسية من مشاعر الغربة والـﻀياع، لكن الفرنسية هي التي صنعت نجوميتهم وحملت صوتهم للعالم. ماﺫا تعني لك الكتابة باللغة العربية؟
ـ ج: بعـﺽ الإخوة الكورد يحسبونني ـــ أنا المغربية ـــ على الشعب الجزائري الشقيق، وهم في ﺫلك غير مخطئين تماما، ﺫاك أننا في شمال إفريقيا شعب أمازيغي واحد رغم كل الحدود المفتعلة التي ظهرت مع كل أنواع الاستعمار التي مرت بها منطقتنا على مر التاريخ.
وحال شعبنا هﺬه يمكن الحديث عن كتابنا الأمازيغ الـﺬين كتبوا عامة باللغة الفرنسية كلغة استعمارية، وليس فقط عن الأدباء الجزائريين، أما عني ككاتبة مغربية ناطقة بالعربية ـــ وبسبب سياسة التعريب لدينا ـــ فقد كنت ممن اﺿطروا اﺿطرارا للكتابة بغير لغتهم الأم ليعيشوا اغترابهم اللغوي وﺿياعهم الثقافي مع اللغة العربية كلغة أجنبية إلى جانب اللغة الفرنسية.
غير أن اللغة العربية ـــ عكس اللغة الفرنسية التي كتب بها غيري من الأمازيغ ـــ لم تصنع نجوميتي بالقدر الـﺬي يستحقه خطاب أدبي في مثل أصالة وقوة خطابي، فلو كنت قد كتبت بلغة حية أخرى ربما كان لهكـﺬا خطاب أدبي أمازيغي مثير للجدل حظ أوفر في إدهاش العالم وشد الانتباه إليه.
الخدمة الوحيدة التي أسدتها إليّﹶ اللغة العربية هي أنها أوصلت صوت احتجاجي لكل أعداء الله والعقل والعدالة والسلام فيما يسمى تعسفا بالعالم العربي الإسلامي، أعداء ليس هناك على الإطلاق مَن هم أكثر شراسة منهم في التعامل مع حقوق الشعوب والإنسان.
أعداء صنعوا بؤس شعوبنا الأصلية بمحو تاريخنا وفرﺽ تاريخهم، بتهميش لغاتنا والتمكين للغاتهم، بإبادة ثقافاتنا لصالح ثقافاتهم، بتهجير شعوبنا لأجل توطين شعوبهم، بجعلنا أخيرا نتعامل مع الآخرين ـــ الـﺬين عكسنا تماما ما يزالون صامدين أمام كل مد ثقافي إقصائي لعين ـــ على أنهم بشر ﺿالون علينا ترهيبهم وقتالهم، وفي أحسن الأحوال.. علينا محاولة إخراجهم من أنوارهم الساطعة إلى كل ظلمة لنا حالكة، ظلمة بتنا فيها ـــ حتى أجل غير مسمى ـــ هؤلاء التائهين الـﻀائعين!