منارات عراقية … محمود صبري .. قامة إبداعية منسية

موقع الناقد العراقي

يمكن اعتبار الفنان العراقي الراحل محمود صبري مدرسة فنية قائمة بحد ذاتها، فهو صاحب اللوحات ذات المواضيع الثورية مثل” جنازة الشهيد” التي استوحاها من تشييع السجين السياسي نعمان محمد صالح في بغداد في عام 1951 و” ثورة الجزائر” عن نضال بلاد المليون شهيد و” تل الزعتر” عن المجزرة التي راح ضحيتها مئات الفلسطينيين و” حامل الصليب” التي تجسد مأساة الشعبين اللبناني والفلسطيني. لكن محمود صبري شأنه شأن كبار الفنانين العالميين لا يقف عند مرحلة معينة في الابداع الفني بل يواصل البحث عن اشكال تعبيرية جديدة في لوحاته الجدارية ومنها” وطني” التي لم يقدر لها ان تأخذ مكانها في الجهة الخلفية لنصب” الحرية” لجواد سليم في وسط بغداد.

 

 

بدأ محمود صبري حياته الفنية هاويا ولم يتخرج من اكاديمية او معهد فني بل تلقى الدروس في الرسم في مدرسة للهواة بلندن في الاربعينيات حين كان يتلقى العلم باختصاص الاجتماع. وقد اثرت هذه الفترة فيه كثيرا حيث زار متاحف لندن ومعارضها والتقى رجال الفن والثقافة فيها. ولهذا كان عندما جاء الى بغداد قد حدد موقفه من الابداع الفني بكونه جزءا من عملية التطور الاجتماعي. وقال محمود “ان الفنان هو مفكر اجتماعي والحرية امر طبيعي بالنسبة الى الانسان”.

 

ويبدو ان هذا الموقف بالذات جعله منذ البداية في مواجهة مع السلطة التي كانت تسلب الحريات في العراق. وعندما عرضت اعماله الاولى في قاعة معرض الازياء في بغداد عام 1950 جذبت الانتباه لاختياره مواضيع غير مألوفة لدى الفنانين العراقيين يومذاك مثل سلسلة لوحات” في الانتظار” عن الحياة البائسة للمومسات. علما ان جميع لوحات محمود صبري كانت تصور البشر البسطاء بوجوه تعبر عن الالم والكآبة. ولن تجد لديه لوحات بورتريه لسيدات انيقات او مناظر طبيعية او حتى لوحات” طبيعة جامدة” الا فيما ندر. وبهذا فان الفنان اراد التأكيد على الوظيفة الاجتماعية للفن في المرحلة الثورية من تأريخ العراق بحكم انتمائه فكريا الى قوى اليسار.

 

 

والطريف انه عمل في العراق في تلك الفترة في وظائف لا علاقة بها بالفن كما في بنك الرافدين. ثم عين بعد ثورة 14 تموز/يوليو عام 1958 مديرا له، كما تولى منصب مدير مصلحة المعارض وتولى تصميم اول معرض تجاري دولي في العراق. واستقال من المنصب في عام 1960 حيث توجه للدراسة في معهد سوريكوف الفني بموسكو. وكان قد قرر نهائيا الانصراف الى الابداع الفني.

واحدثت هذه الفترة من حياة الفنان انقلابا تاما في اسلوب تفكيره. فقد واصل من جهة تحقيق افكاره عن الوضع الاجتماعي في العراق في لوحات جدارية، كما ركز جهده على تطوير مهاراته التقنية التي كانت دون المستوى المطلوب بسبب عدم حصوله على التعليم الأكاديمي. واستطاع في فترة قصيرة تطوير قدراته في التخطيط حتى بلغ مرحلة الكمال. ان الرسوم القليلة التي تركها لدى معارفه بموسكو تشهد على كونه فنانا يجيد استخدام القلم بشكل يحسده عليه جميع الفنانين الاخرين في بلاده. علما انه اهتم في هذه الفترة بالتحضير لجداريته” وطني” ولهذا وجدت في شقته في شارع زفيوزدني بوليفار بموسكو آنذاك البومات عن ايقونات الروسي اندريه روبليوف ولوحات المكسيكيين دييغو ريفيرا وخوسيه اوروزكو واعمال الكسندر دينيكا استاذه في المعهد (الذي تزين لوحاته الموزاييك سقف محطة مترو الانفاق “ماياكوفسكايا” بموسكو). وفي هذه الفترة ربطته اواصر صداقة بفنانين طليعيين سوفيت منهم جيلينسكي واوسوفسكي ورسام الجرافيك البارز بافل فوفورسكي. وكان يجد لديهم التشجيع تارة والنقد تارة اخرى. كما انغمر في الحياة الثقافية الروسية فغالبا ما تجده في القاعة الكبرى لكونسرفتوار موسكو وتارة في غاليري ترتياكوفسكايا او متحف بوشكين للفنون او مسرح البولشوي. وكان من الطبيعي ان يلتقي المثقفين العرب بموسكو مثل الروائي غائب طعمة فرمان والشاعر عبد الوهاب البياتي وشخصيات يسارية كانت تدرس في المدرسة الحزبية.

 

 

وفي موسكو بالذات بدأت تتشكل لديه افكار جديدة حول وظيفة الفن في المرحلة الجديدة من تطور البشرية. وبالذات مع الثورة العلمية – التكنيكية. فالفن يؤدي في كل مرحلة تأريخية وظيفة ما منذ العصر الحجري وايام الفراعنة والبابليين والاغريق وحتى عصر النهضة ومرحلة الثورة الصناعية. وقد افرزت كل مرحلة اعمالا فنية متميزة تحفظ اليوم في المتاحف العالمية. اما في الوقت الحاضر فقد بدأ عصر الذرة وميكانيكا الكم وغزو الفضاء. علما ان محمود صبري كان دوما يبدي الاهتمام بالعلوم وعلاقتها بالفنون. وكان يقبل على مطالعة كتب الفلسفة وعلم الاجتماع وحتى ادب الخيال العلمي. وروى مرة كيف قضى ليلة بأكملها في مطالعة رواية ايفان يفريموف” ضباب اندروميدا” وهي من ادب الخيال العلمي والتي اثرت فكرتها فيه بالغ التأثير من حيث علاقة الانسان بالطبيعة وبالكون.

 

 

وعندما غادر محمود صبري موسكو في عام 1963 للإقامة في براغ تبلورت لديه أكثر فكرة ضرورة الربط بين الفن والعلم. افلم يكن الفنان العظيم ليوناردو دافينشي الرائد في هذا المجال؟ وأطلق محمود بيانه الشهير حول “واقعية الكم” في عام 1971 واقام معرضه الاول هناك الذي احتوى على انجازاته في هذا المضمار. وقال الفنان عن نظريته الجديدة:” التجارب الاخيرة التي اعمل عليها الآن.. على واقعية الكم او ما اسميه المرحلة الثانية التي تستند على افكار اينشتين النسبية.. من ان الزمن متغير وان كل جسيمة لها زمنها الخاص”.

 

 

ان الفنان محمود صبري ليس من رجال الفن فقط بل هو فيلسوف ومنظر حول علاقة الفن بالحياة.

شأنه شأن مبدعي العراق لم يلاقى التكريم المستحق في حياته ولم ينل الاستذكار الذي يليق به عند وفاته، وهو قامة من قامات الابداع العراقي.

توفي يوم 13 نيسان 2012 في ميدينهيد، المملكة المتحدة.

قد يعجبك ايضا