مير بصري
رجل فذ في بساطته وهدوئه وكرامة نفسه، سطع نجمه في سماء السياسة العراقية سبع سنين ونصف السنة في عهد من اشد العهود التاريخية حرجا وشدة، فكانت تلك الاعوام القليلة كافية لتخليد اسمه بين بناة الدولة الجديدة.
ينتمي عبد المحسن السعدون الى اسرة شريفة هبطت العراق من الحجاز في اوائل القرن السادس عشر الميلادي، ثم اسست في ديرة المنتفق جنوبي العراق امارة دامت أكثر من ثلاثمائة سنة حتى قضى عليها الوالي مدحت باشا سنة 1869 وجعل منها لواءً من الوية العراق.
وعبد المحسن بك بن فهد باشا بن علي بن ثامر بن سعدون بن محمد بن مانع الثاني بن شبيب الثاني بن مانع الاول. وقد حكم غير واحد من اجداده البصرة الى جانب المنتفق أصبح والده فهد باشا شيخا للمنتفق لأول مرة سنة 1856-58 ومنحه الاتراك رتبة الباشوية (1864) ولما قضت الحكومة التركية على امارة آل سعدون نصبت فهد باشا، فيمن نصبتهم من رجال اسرته، متصرفا للناصرية (1877-79) ثم نقلته متصرفا للواء الحلة وتوفي سنة 1896.
اما ام عبد المحسن فهي كريمة فيصل التركي آل رشيد من امراء حائل.
ولد عبد المحسن السعدون في الناصرية سنة 1879 ونشأ في كنف ابيه، حتى إذا ما بلغ الثالثة عشرة من عمره ارسله والده بطلب من السلطان عبد الحميد الثاني الى إستانبول ليلتحق بمدرسة العشائر وعاد الى العراق في السنة التالية لقضاء عطلة الصيف، ولما عاد الى إستانبول أرسل ابوه بصحبته اخاه الكبير عبد الكريم. وتخرج الاخوان في مدرسة العشائر سنة 1897 فانتميا الى المدرسة الحربية وتخرجا فيها برتبة ملازم ثاني (1899).
التحق عبد المحسن ضابطا في صنف المشاة، وعينه السلطان عبد الحميد هو واخاه مرافقين له، ثم منحهما رتبة بكباشي (مقدم) سنة 1905) ولما قام الانقلاب الدستوري وخلع السلطان عبد الحميد انزل الاتحاديون رتبة عبد المحسن الى ملازم ثان وقرروا نقله الى ادرنة، فاستقال من الجيش.
وانتخب نائبا عن العمارة في مجلس المبعوثين (كانون الاول 1908) فنائبا عن المنتفق (حزيران 1912) وجدد انتخابه للنيابة عن اللواء نفسه في ايار 1914 حتى حل المجلس بعد الهدنة سنة 1918 وعاد الى بغداد سنة 1909 فقضى فيها وفي بلدة الحي اشهراً قبل عودته الى العاصمة التركية. ولم يعرف عنه في اثناء نيابته انه اشترك في المناقشات مؤثرا الصمت ومبتعدا عن المهاترات الحزبية.
جاء الى بغداد سنة 1919 فمكث فيها تسعة أشهر وعاد الى إستانبول، وقدم العراق نهائيا في تشرين الثاني 1921 مع زوجته التركية واسرته، فعين وزيرا للعدلية في الوزارة النقيبية الثانية (24 نيسان 1922) فوزيرا للداخلية في الوزارة النقيبية الثالثة (20 ايلول 1922). ورئيسا للوزارة الجديدة في 18 تشرين الثاني 1922 الى 22 تشرين الثاني 1922، متقلدا وكالة وزارة العدلية مع الرئاسة في بادئ الامر، ثم استبدلها بوكالة وزارة الداخلية في 9 كانون الثاني 1922.
وانتخب نائبا عن البصرة في المجلس التأسيسي فلما اجتمع المجلس في 27 اذار 1924 انتخب السعدون رئيسا له الى انفراط عقده في 3 آب 1924. واشترك في وزارة ياسين الهاشمي وزيرا للداخلية (من 4 آب 1924) الى 26 حزيران 1925. ثم انتخب نائبا عن البصرة في مجلس النواب (تموز 1925) وألف حزب التقدم وتولى رئاسته.
وألف وزارته الثانية في 26 حزيران 1925 الى 21 تشرين الثاني 1926، وتولى علاوة على رئاسة الوزراء ووزارة الخارجية (التي استحدثت لأول مرة)، وكالة وزارة المالية من 19 الى 24 تشرين الثاني 1925، ثم وكالة وزارة الداخلية من 20 اذار الى 17 حزيران 1926.
ومنح في تلك السنة وساما بريطانيا رفيعا مع لقب “سير” فهناه معروف الرصافي قائلا:
حسن الوسام بصدر عبد المحسن وبدا عليه كزهرة من سوسن
صدر به كمنت سرائر مجده فاستعصمت منه بأشرف مكمن…
وانتخب رئيسا لمجلس النواب في 27 تشرين الثاني 1926، وجدد انتخابه في اول تشرين الثاني 1927 ثم ألف وزاره الثالثة في 14 كانون الثاني 1928 متقلدا الرئاسة ووزارة الخارجية ووكالة وزارة الدفاع ثم تقلد وزارة الداخلية بالوكالة ايضا في 19 ايار 1928 وتخلى عن وكالة وزارة الدفاع، ثم تخلى عن وكالة الداخلية في 3 حزيران 1928 وظل في سدة الحكم الى 28 نيسان 1929.
انتخب نائبا عن البصرة ايضا في الدورة النيابية الثانية (ايار 1928) كما انتخب رئيسا لمجلس النواب مرة اخرى في 29 نيسان 1929 وألف وزارته الرابعة في 19 ايلول 1929 متقلدا الرئاسة والخارجية حتى انتحاره في بغداد في 13 تشرين الثاني 1929.
جمع السعدون في شخصه اطيب خصال البداوة والحضارة. فقد ورث عن ابائه شجاعة البدو وصراحتهم وصفات الزعامة التي تفرض نفسها فرضا. واكتسب في عاصمة السلطنة وبلاط الخليفة سعة النظر ودهاء السياسة التي تقرن الشدة باللين. ثم شهد في مجلس النواب التركي صراع الاحزاب والاقوام المختلفة المجتمعة على صعيد واحد، يحاول كل منها ان يؤمن مصالحه وينال حقوقه في دوامة الاحداث العالمية المحتدمة. هيئ للسعدون ان يعود الى العراق بعد غياب ثلاثين سنة فيجد دولة ناشئة تتلمس طريقها في خضم الانتداب وزعازع التأخر والجهل والفقر. ان من ينهض بتبعة الحكم ليحتاج في هذه الآونة الى كل صلابته ومرونته وكل عزمه وشجاعته، وكل صراحته ودهائه، ليسير سفينة الدولة بين الامواج المتلاطمة، ولم يكن للسعدون وسائر السياسيين بد من مصانعة الانكليز ومساومتهم حبا بمصلحة العراق، لتوطيد الحكم الدستوري وعقد المعاهدات التي تعين العلاقات مع الدولة المنتدبة وتمهد الطريق لرفع الانتداب ونيل الاستقلال والدخول في عصبة الامم – مطمح انظار الدول الناشئة بعد الحرب العظمى الاولى، يضاف الى ذلك وجوب تأمين الحدود مع الدول المجاورة واستخلاص الموصل من مطالبة الاتراك وتهيئة الموارد المالية واستثمار المرافق ورفع مستوى المعيشة ومحاربة الامية والفاقة. ولقد كانت تلك مهمة ينوء بثقلها اشد السياسيين مراسا واصلبهم عودا وقد وفق السعدون بالتعاون مع الملك وسائر رجال الحكم لتحقيق ما أمكن تحقيقه شيئا فشيئا. وكان السعدون رجل دولة ينظر الى الامور بمنظار الواقع والمصلحة العامة، فلما ضاقت به السبل والتوت الطرق، واشتدت الضغائن والاحقاد، لم يجد وسيلة سوى الموت للتخلص من العبء الضخم الذي حمله راغبا مختارا.
كان عبد المحسن السعدون واسع افق التفكير متسامحا بعيدا عن التعصب فحينما اضطر الى ابعاد العلماء الى إيران سنة 1923 ليفسح المجال لانتخاب المجلس التأسيسي، لم يفعل ذلك بداعي التعصب الطائفي وانما اعتقادا منه بضرورة التذرع بالحزم في سبيل تحقيق الحياة الدستورية. حدثني يعقوب سركيس، وكان شديد الصلة به، انه لم يكن يفرق بين قوميات العراق وطوائفه واكثريته واقليته، فقد وفد الارمن على العراق بعد ان ذاقوا مرارة التشريد والقتل على ايدي الترك ابان الحرب. وأصدروا جريدة باللغة الارمنية دأبوا فيها على التنديد بتركيا وسلقها بالسنة حداد جزاء ما فعلت بهم. فقال يعقوب سركيس، وهو من اسرة ارمنية ثرية سكنت العراق منذ عهد بعيد لرئيس الوزراء: “أليس من الصواب الغاء امتياز هذه الجريدة الارمنية حرصا على علاقات الود وحسن الجوار مع تركيا؟”.
فقال السعدون: “ارى من الافضل منح هؤلاء الناس حرية الكلام لينفسوا عن ذات صدورهم، والا طووا ضلوعهم على الحقد حتى على البلاد التي اوتهم واحسنت إليهم.” ولم يلغ امتياز الجريدة.
وقد قال في خطاب له في مجلس النواب في 21/1/1926 اثناء الكلام على منح حقوق الكورد العراقيين وادارة المناطق الكوردية بعد انتهاء ثورة الشيخ محمود: “لا سبيل للبلاد الى الحياة ما لم تتمتع جميع عناصر الدولة بحقوقها وتعامل جميع عناصر الدولة بالعدل”.
كان مضرب المثل في النزاهة ونكران الذات: حدثني يعقوب سركيس ايضا ان آل السعدون كانوا يوجسون خيفة كلما جاء عبد المحسن الى الحكم. فقد استفحل النزاع على اراضي المنتفق بين المشائخ من آل السعدون والعشائر المقيمة هناك واستعصى حله، فكان عبد المحسن إذا ولي رئاسة الوزراء امتنع عن مساعدة آله ومعاونتهم في استرداد الحقوق التي يطالبون بها على حساب الزراع والفلاحين. وكان آل السعدون يلتمسون النصفة لأنفسهم من كل احد الا من عبد المحسن.
اما سمو النفس والترفع عن الصغائر والرقة والعطف فكانت جبلة فيه: طعنه موظف مفصول بمدية في آب 1926 وكاد يؤدي بحياته، فلم يكن منه الا ان عفا عن الجاني وطلب الرأفة بحاله ومد يد العون الى اسرته المنكوبة، واشتدت الخصومات الحزبية وكثرت المهاترات في مجلس الامة وفي مقالات الصحف، فلم يضق صدره ولم تصدر من شفتيه كلمة نابية، بل كان يوصي مساعديه وكتابه بالرفق والحلم والاناة. روى امين الريحاني في كتابه “فيصل الاول” عن احمد حامد الصراف، وهو يومئذ مدير المطبوعات، قال: “كنت اطالع الجرائد كل صباح والخص ما يتعلق به (اي بالسعدون) وبالحكومة من الاخبار والمقالات، وكان يسألني عندما الفت نظره الى مقال فيه طعن او تحامل عليه ان اراجع القانون المختص بالذم والقذف، فأطلعه عليه، لكنه في الايام الثلاثة التي تقدمت الفاجعة، على ما جاء فيما سمعني اقرأ من الطعن المقذع عليه كان يقول: سامحهم، يا ولدي، ثم يعظني بالحلم والتؤدة وكرم الاخلاق..”.
اتيح لأمين الريحاني ان يعرف السعدون في مبدأ حياته السياسية واوج قوته، فوصفه في كتابه “ملوك العرب” قائلا:
“هو رجل في العقد الرابع من العمر، ربع القامة، اسمر اللون، حسن البزة، اوروبي حتى رأسه – حتى الاستثنائية اريد – فالرأس اسود الشعر قصيره، ومثل كلة المدفع مستدير، والعين فيه كالمشعل بين الليل والغسق، والفم عدل ولكنه قاس قلما يبسم وقلما يتكلم، ولكن عندما يتحرك الفم تسارع اليه نفس جذابة فتمتزج بكلماته القليلة وفيها مضاء وليس فيها جفاء، رجل سكون، وكل سكون لغز لمن لا يعرف شيئا من سابق حاله… وهوذا السعدون عبد المحسن العربي السكوت، ويحق لي ان اقول الان السكوت العزوم، فقد برهن في وزارته التي استمرت سنة على انه فعال لا قوال، وعليم فيما يفعل حكيم..”.
ولا بدع ان كان لانتحار عبد المحسن السعدون دوي شديد هز النفوس وصرع العقول، فالسبيل الذي اختاره لم يكن سبيل السياسيين ولا العاملين في حقل الخدمة العامة، وكان طبيعيا ان يختار الرجل المسؤول في مثل هذا الموقف اعتزال المنصب والاخلاد الى العزلة والسكينة حتى تهدأ العاصفة وينفتح طريق جديد بدل الطريق المغلوق، اما ان يختار رئيس الوزراء سبيل الانتحار فذلك كان بعيدا عن التصور والادراك.