مقومات الفخر عند عنترة بن شداد

 

د . صباح ايليا القس

 

 

الفخر أحد الاغراض الشعرية التي عالجها الشعر العربي على امتداد تاريخه منذ العصر الجاهلي وحتى العصر الحديث لا سيما في قصائد شعراء القصيدة العمودية او قصيدة الوزن والقافية بشكلها المعروف بأوزانها وقوافيها .

والفخر أيضا يعني ( أنا ) الشاعر التي تشير الى الآخر المقصود بالخطاب ولكل شاعر ( أناه ) وقصديته التي تمثل خطابه الذي يريد إيصاله الى المخاطب المتلقي بما يشتمل عليه من رسائل مباشرة او غير مباشرة ..

الفخر على الاغلب يكون ذاتيا اي يمثل ( انا ) الشاعر بصورة خاصة وبوساطة هذا الخطاب ينتقل الى الاخر الذي يعني له المرأة الحبيبة او الاسرة او النسب الثابت والعشيرة والقبيلة برمتها ذلك لان هذه القيم هي من سمات المجتمع العربي قديما وحديثا على الرغم من المفردات الحضارية المعاصرة .

نستطيع ان نتلمس الفخر واضحا في معلقة عنترة بن شداد التي يقول مطلعها :

هـــــل غـــادر الشعـــراء مــــن متــــــردِّم         أمْ هــــــلْ عرفــــتَ الـــــدار بعـــد توهــِّــم ؟

نرى عنترة وعلى عادة الشعراء في افتتاح قصائدهم بالوقوف على أطلال الحبيبة فهو يقف امام أطلال عبلة مستذكرا الشعراء الذي وقفوا قبله وغادروا تلك الديار ( غادر الشعراء ) وهو اذ يقف عند تلك الاطلال تأخذه الحيرة ويتردد ويتوهم وسؤاله الديار مستعينا بالذاكرة للتأكد من صحة هذه الديار ومن العجب أن يكون الشاعر واهما في استذكار موضع الحبيبة وهذا مما يؤاخذ عليه لكن الاعتراض يمكن أن يغفر له اذ ان الارض الرملية والرياح العاصفة وتعدد إشغال المكان يمكن أن يغير بعض الملامح ولكن الاصرار واعادة مفاتيح الذاكرة تعيد الامور الى مواضعها ويتلمس الشاعر عنترة حدود المكان ويزول الوهم وتنشط الخيالات وأحلام اللقاءات ويتحقق حضور الآخر ( عبلة ) في الابيات اللاحقة على الرغم مما أبدته من صدود بوصفها من طبقة الاحرار وهو من العبيد اذ لا يمكن أن نتجاوز الفارق الطبقي بغض النظر عن بطولة عنترة وشجاعته وشاعريته لكن سواد لونه يشكل حساسية لا يمكن تجاوزها ضمن معطيات التباين بين الاحرار والعبيد ..

هناك من يرتضي السكون ويؤمن بالواقع وهناك من يثور على هذا الواقع معلنا عدم الرضوخ لهذا القمع الاجتماعي ولا بدّ من كسر هذا الطوق الظالم الذي لا يتناسب مع معطيات الواقع اذ لم يرضخ عنترة الشاعر للهيمنة القبلية من ناحيتي النسب حين لم يعترف به ابوه الا لاحقا ومن حيث اللون بوصفه ابن امرأة سوداء ..

كان لا بد للشاعر عنترة لاثبات ( اناه ) أن يعتمد على معايير اخرى مثل العقل والفروسية وغيرها من القيم النبيلة كقوله متباهيا بسماحته يقول مخاطبا عبلة :

أثنـــي علـــــيّ بمـــا علمــــتِ فأننــــي          سمــــحٌ مخالطتـــــي اذا لـــــــم أُظلـــــم

ويقول متباهيا بالشرف وسلامة العِرض :

فــــــاذا شربـــــتُ فأننــــي مستهــــــلكٌ         مالـــــي وعِرضــــي سالــــــم لــــم يثلـــمِ

ويؤكد صفاته المعروفة واخلاقه العالية وكرمه الوافر يقول :

وإذا صحـوت فمـــا أُقصـِّـــر عـــــن نــــدى      وكمـــــــا علمــــــتِ شمائلـــي وتكرّمــــي

نجد في الابيات المتقدمة خطابه الواضح وقصديته واشارته الى ( عبلة ) بوصفها الحبيبة المرتجاة وهذا دفاعه الاخلاقي الذي يعارض وينافي بل ويدحر السواد والنسب .

اما في باب الشجاعة فهو البطل الذي تعرفه ساحات المعارك بوصفه من الابطال المعروفين وما يحوزه من مقومات الفروسية وفي استعمال الرمح والسيف وهو يأنف من قتال البسطاء ولكنه يقاتل وينتصر على الابطال يقول :

ومـــدججٍ كـــــره الكمــــــاة نزالــــــه         لا مُمْعِــــــنٍ هربــــاً ولا مستسلــــــــم

إن عنترة وهو في ساحة القتال لم تغب عنه ( عبلة ) فهي حاضرة يقاتل من اجلها لاثبات ( أناه ) يقول :

ولـــقدْ ذكرتـــــــكِ والرمـــــاحُ نواهــــــلٌ           منــّـــي وبيـــضُ الهنـــــد تقطــر مـن دمــــي

فـــــوددتُ تقبيــــــل السيــــــوف لأنـــــها          لمعــــــتْ كــــــبارق ثغـــــــرك المتبســـــــــمِ

لم يجد عنترة لاثبات ( اناه ) وحبّه للآخر ( عبلة ) الا القوة والاقتدار والقيم النبيلة على الرغم من اعتراف أبيه لاحقا به إذ ألحقه به وصار حرّاً قائدا بغض النظر عن حكايات القصاصين فالواقع شيء وروايات وخرافات الحكائين شيء آخر .

 

قد يعجبك ايضا