مير بصري
في بعض ايام سنة 1891 ولد عباس بن محمد الثامر المحمد الجادر العزاوي في مضارب عشيرته «العزة» بأراضي العظيم من اعمال ديالى وتنشق الطفل البدوي نسيم الحرية ملء رئتيه وسمع باذنيه الصغيرتين عواء الذئاب في الليالي الحالكة، لم يكد يحبو الى الثالثة من عمره حتى اصابت والده طلقة نارية طائشة اردته قتيلا، فأخذته امه مع اخيه الصغير علي غالب وجاءت بهما الى بغداد حيث شبا في كنف عمهما الحاج اشكح، وقد ظل عباس قريب الصلة بالبادية بالرغم من نشأته الحضرية، فقد عمرت امه عمرا طويلا وتوفيت بعد ان انافت على التسعين، فكانت تقص على ولديها قصص العشائر الرحالة الضاربة في الواحات طلبا للكلأ والماء وتروي اخبار الصلات والمنازعات والامثال والاهازيج والعادات القبلية.
درس الفتى في المدارس التركية الابتدائية ولازم الاستاذين الالوسيين محمود شكري وعلي علاء الدين والشيخ شكر قاضي الجعفرية فاخذ عنهم العلوم العربية والدينية، وقد حدثني عباس العزاوي انه، في اثناء دراسته على شيخه علي علاء الدين الالوسي، كان معه رجل لازم الشيخ اعواما طويلة يدرس اللغة دون ان يفقه منها شيئاً، وفي ذات يوم سأل هذا الرجل عن معنى “القطاطيب”، فعجب الاستاذ لانه لم يمر في مطالعاته بهذه الكلمة ولم يسمع بها، فبحث عنها في المعاجم دون جدوى. واخيرا سأل الرجل: واين وجدت هذه الكلمة؟ فقال: وجدتها في قول الشاعر:
ولولا المزعجات من الليالي لما ترك القطا طيب المنام
فضرب الشيخ على رأسه وصاح: ويلاه! اسفا على السنين التي اضعتها في تعليمك وتثقيفك حتى بلغت من امرك هذا المبلغ!
ونشبت الحرب العظمى سنة 1914 فجند العزاوي في الجيش، لكنه لم يرسل الى ساحة القتال، بل عين كاتبا في المخازن العسكرية، واتيح له ان رأى عن بعد مآسي الحرب وويلاتها، واحتل الانكليز بغداد، فعينوا استاذه السيد علي علاء الدين قاضيا لمدينة السلام، واختاره في هيئة كتاب المحكمة الشرعية، واجازه اجازة علمية عامة، وهي مطمح انظار طلبة المعاهد الدينية وغاية مرامهم. وكان قد انتظم قبيل الحرب في سلك طلاب مدرسة الحقوق، حتى إذا ما اعيد افتتاحها بعد الاحتلال، واصل دراسته فيها ونال شهادتها سنة 1921.
زاول عباس العزاوي المحاماة اربعين سنة حتى اعتزلها في شباط 1962، وانتخب في آب 1935 نائبا لرئيس نقابة المحامين (الى آب 1936) وتنقلت به هذه المهنة في ارجاء العراق وارته حواضر البلاد شمالا وجنوبا، ولقد طالما عرضت عليه مناصب قضائية عالية فلم يمل الى قبولها، بل آثر الاحتفاظ بثوب المرافعة الذي بوأه مكانة في وطنه مرموقة ودر عليه مورد رزق وفير، واذ كان قد تصدى للتأليف وتحبير المقالات في مواضيع تاريخية واجتماعية وقانونية وفقهية فان ممارسته الحقوقية، بالاضافة الى دراسته الدينية، قد وسعت آفاق فكره وفتحت لعينيه مجالا عريضا يصول فيه ويجول.
ان تلميذ الالوسيين لم تكن له ندحة عن ولوج عالم الكتابة والكتب، فلقد كان علي علاء الدين يكلفه بحضور مزايدات بيع المطبوعات والمخطوطات وشراء ما يتسنى شراؤه له منها، فلم يلبث الشاب عباس ان صار يبتاع الكتب لنفسه، وكان ذلك مبدأ تكوين خزانة كتبه الحصة التي تعد من امهات المكتبات العراقية، وخطا صاحبنا خطوة اخرى فأخذ بالتدوين والتأليف. وندب نفسه لتحقيق الفترة المظلمة من تاريخ العرق، فوضع كتابه “تاريخ العراق بين احتلالين” في 8 مجلدات (1935 – 56) تناول فيه الاحداث التي مرت على هذا القطر منذ احتلال هولاكو لبغداد سنة 1258م ، الى انقشاع ظل الحكم العثماني بعد 659 سنة وقد اخذ على المؤرخ العزاوي انه رتب تاريخه على اساس السنين فجاء اقرب الى سجل الوقائع. ولكن ألم تكن تلك طريقة كبار المؤرخين الاقدمين كالطبري وابن الاثير وابي الفداء وابن خلدون؟ ثم ان مرحلة تدوين الحقبة المظلمة من تاريخ العراق لم تحن بعد يوم شرع العزاوي بوضع تاريخه، فلم يتم استقصاء الوثائق والمستندات والمراجع المتعلقة بتلك الفترة، ولم يتهيأ تمحيصها وتحقيقها واستقراؤها ونشرها، وتلك السنة الطبيعية في كتابة التاريخ شهدناها في الشرق والغرب، فلا بد ان تكون المرحلة الاولى احياء المصادر والمراجع حتى تتجمع للمؤرخ المادة الوافية الصحيحة التي يستعين بها في مهمته. ولم يقصر العزاوي في استجلاء غوامض تاريخ العراق خلال القرون السبعة الماضية، فجمع الوثائق والمراجع ونشر ما استطاع نشره من المصادر والاسانيد.
واخذ علي العزاوي ايضا ان اسلوبه الكتابي بعيد عن التنميق واشراق الديباجة، وهذا المأخذ لا يقلل من شأن كتاباته التي ترمي الى افادة القراء لا الى امتاعهم واستهواء افئدتهم.
حظي عباس العزاوي بالتقدير والتبجيل في العراق والبلاد العربية ومحافل الاستشراق على السواء، فانتخب في ايار 1943 عضوا بالمجمع العلمي العربي في الشام، واختير نائبا لرئيس لجنة التأليف والترجمة والنشر بوزارة المعارف العراقية سشنة 1945، ثم اصبح رئيسا لها بعد وفاة طه الراوي (1946). وانتخب عضوا في جمعية الدراسات التاريخية بالقاهرة (نيسان 1950) ومجمع اللغة التركية في انقرة (1958) ، الخ..
وانتخب في حزيران 1957 عضوا بالمجمع العملي العراقي (الى حلته في حزيران 1963)، وعين اخيرا عضوا مراسلا بمجمع اللغة العربية في مصر.
وقد توفي بغداد في 17 تموز 1971.
مؤلفاته:
وضع عباس العزاوي مؤلفات عديدة منها: تاريخ العراق بين احتلالين (8 اجزاء، 935 – 56) عشائر العراق (_4 اجزاء 1937 – 56) تاريخ اليزيدية واصل عقيدتهم (1935) تاريخ علم الفلك في العراق (وفي آخره بحث عن علم الفلك الحديث في العالم العربي بقلم مير بصري) (1958) تاريخ الادب العربي في العراق (جزآن 1961-62) التعريف بالمؤرخين (1957) تاريخ النقود العراقية (1958) الكاكائية في التاريخ (1949) الموسيقى العراقية في عهد المغول والتركمان (1951) منتخب المختار في تاريخ علماء بغداد (لمحمد بن رافع السلامي، 1938) مجموعة عبد الغفار الاخرس (1949) تاريخ الضرائب العراقية (1959) النخل في تاريخ العراق (1962) رحلة المنشيء البغدادي (منقولة عن الفارسية، 1948) ذكرى ابي الثناء الالوسي (1958) سمط الحقائق في عقائد الاسماعيلية (1953) النبراس في تاريخ خلفاء بني العباس لأبن دحية الكلبي، 1946) رسالة في تفضيل الاتراك على سائر الاجناد (لابن حسول، 1940) فيلسوف العرب يعقوب بن اسحق الكندي (مترجم عن التركية، 1963) ، الخ.
وله عدا ذلك مقالات وبحوث كثيرة في التأريخ والعقائد والفرق والتاريخ الادبي، ومن مصنفاته المخطوطة: تأريخ شهرزور (السليمانية)، بغداد عاصمة الخط العربي، بغداد في مختلف العصور، المساجد والمدارس في بغداد، بغداد برج الاولياء، الشبك والقزلباش، الشعر العراقي الحديث، تأريخ الادب التركي في العرق، تأريخ الادب الفارسي في العراق، تأريخ اربل، تأريخ العقيدة الاسلامية، الخ.