باسل عباس خضير
في بداية النصف الثاني من القرن الماضي لم تكنهناك علاقة تذكر بين المواطن والدولار فالناس كانوايتوزعون بين معوزين وموظفين وعاملين في القطاعالخاص ويتدبرون أمورهم المعاشية بدرجات فيمايحصلون عليه من رواتب وأرزاق ، وكانت الأسعار شبهمستقرة ولا تتغير إلا بشكل طفيف في الازماتوالأحداث لان المنتج المحلي والاستيراد المنضبطيغطيان اغلب الحاجات ، والعملة التي كان يعول عليهاغالبية العراقيين هي الدينار وسعر صرفه معروفويتنافس في كثير من الاحيان مع الدينار الكويتيصعودا او نزولا بالفلسان ، ورغم إن بعض العراقيينكانت لهم هوايات للسفر لاسيما في الصيف وبالذاتأثناء العطل السنوية الدراسية إلا إنهم لم تكن لهممعاناة مع الدولار فالدينار العراق قابل للتصريف فياغلب البلدان ، والبنوك كانت تبيع الدولار للمواطنينبحد أعلى مقداره 600 دينار عراقي بما يعادل 2000 دولار ، وإذا فضل الأفراد التصريف من السوقالموازي فان شارع ( السموؤل ) القريب من بنايةالمركزي في شارع الرشيد هو ملاذهم حيث يعمل فيهعددا من الصرافين الذين يتداولون العملات العالميةلمختلف العملات ويقومون بالتحويل لمن يشاء ، ومن كانيسافر لأي غرض كان لم تكن له نوايا لخزن الدولارفاغلب ما يتبقى من العملات التي يحملها بعد عودتهأما يشتري منها هدايا من سكائر ومشروبات وعطوراو غيرها من الطائرة او يقوم بزيارة السوق الحرة التيكان مكانها في موقع مطار المثنى ليشتري بما تبقى لهمن الدولارات هدايا او مقتنيات وربما يبيع ما يتبقىفي سوق العملات .
وبعد الحرب 1980 بدأت ملامح الاهتمام بالدولار ،فرغم إن أسعار الصرف بقيت على حالها ( أكثر من3 دولارات لكل دينار ) إلا إن السوق السوداء للعملاتأخذت تنتعش وتتحول من الصرافين الذين اشرنا إليهمإلى عدة أماكن في الخفاء ، وهناك سببين لذلك وهمااستنزاف الدولة للكثير من العملات الأجنبية لتغطيةنفقات الحرب في ظل الانخفاض بأسعار النفط والطلبالذي اخذ يتصاعد من قبل العاملين الوافدين للعراقلتعويض نقص الموارد البشرية التي استدعيت للخدمةفي الجيش ، ورغم إن الحكومة قد حددت للوافدينسقفا لتحويلاتهم من الدولار يتناسب مع ما يحصلونعليه من الدينار إلا إن البعض كان يسعى للحصولعلى الدولار لأكثر لما هو محدد وتحويله للخارج ، وبعداحتلال الكويت وصدور قرارات الحظر الدولية علىالعراق أصبح للدولار شانا غير مسبوق فالدولة ليستلها مدخولات من تصدير النفط والحصة التموينية التياعتمدتها الدولة في 1990 لم تكفي لسد كلالاحتياجات ، لذا لجأت الدولة لإصدار تعليماتسمحت بموجبها للتجار والصناعيين وغيرهمبالاستيراد من دون تحويل خارجي اعتمادا علىإمكانيات المستورد في تدبير العملات الأجنبية ،وشهدت الأسواق فوضى في أسعار تصريف العملةفي مكاتب بعضها تمت إجازتها وبعضها الآخربالخفاء وجزءا منها مخترقة من أجهزة الدولة الأمنية اومن خلال البورصة وكان مقرها الرئيس بشارع الكفاحفي بغداد ، وفي فترة التسعينات أصبح الدولار منبوذامن قبل غالبية الشعب فشحته مصدر تجويعهموالأسعار تتأثر بتذبذبه فحين يرتفع سعر الدولار تفتحالمبيعات وحين تنخفض أسعار الصرف لسبب ماتنكمش او يتوارى البائعون عن الأنظار .
وبعد الاحتلال الأمريكي في 2003 نشأت علاقةجديدة بين المواطن والدولار فقد أخذت التعاملات تسودبالدولار لان الأمريكان لم يعترفوا بعملة النظام السابق، و تم توزيع أول دفعة من الدولارات على الموظفينبحدود 30 دولار تحت مسمى ( منحة الطوارئ ) وبعدإن فتحت الوزارات لدوام الموظفين تحولت تلك المنح إلىرواتب توزع على الموظفين بثلاث فئات تتراوح بين (120 – 180 ) دولار واستمر هذا الحال لحين إصدار عملةالحاكم المدني بول بريمر التي نتعامل بها اليوم ،وتحول التوزيع بموجب سلم الرواتب الذي وضعهالحاكم المدني ولحين صدور قانون رواتب ومخصصاتموظفي الدولة رقم 22 لسنة 2008 الذي لايزال ساريالمفعول ، وتزامن مع الاحتلال أعمال السلب والنهبوالتدمير للبنى التحتية الذي كما تم فتح أبوابالاستيراد دون ضوابط او كمارك او رسوم وبذلك اخذالدولار يتسيد الموقف في التعاملات فمعظم الأسعارتقوم بالدولار وحتى الموازنات الاتحادية كانت توضعبالدولار ثم تحول للدينار ، ورغم تبديل عملة النظامالسابق لعملة جديدة إلا إن أسعار صرف الدولار مقابلالدولار لم تستقر صعودا ونزول ، وبعد تشكيل أولحكومة بموجب دستور 2005 تم التوجه لشعار تقليل ( الدولرة ) والعودة للدينار فضلا عن السعي لاستقرارأسعار الصرف ، فاوجدوا مزاد العملة للدولار في البنكالمركزي حيث يتم تحديد أسعار للشراء والبيع ويفترضمراقبتها والمحاسبة بخصوصها استنادا لأحكامالقوانين ، ومنذ ذلك الحين ولحد اليوم أنفقت الدولةمئات المليارات من الدولارات لاستقرار أسعار الصرفولكنها لم تستقر تماما فهي تتراوح حول حدودهاوغالبا باتجاه الصعود والمواطن يتضرر بأغلب الاحيان.
وفي سابقة خطيرة في العلاقة بين المواطن والدولاراستخدمت الدولة أسعار صرف الدولار كأداة لتمويلالعجز في الموازنة الاتحادية لسنة 2021 ، إذ اتفقتالحكومة مع البنك المركزي وبموافقة مجلس النوابوبمباركة بعض السياسيين على تغيير سعر صرفالدولار من 1182 دينار إلى 1470 دينار مما يقللالقدرات الشرائية للعملة الوطنية بمقدار 23 % ، وكانتحجتهم بذلك تعويض نقص إيرادات النفط بسببانخفاض أسعارها عالميا في الأسواق مما أزم علاقةالمواطن مع الدولار لان غالبية المواطنين ومن مختلفالفئات تضرروا من السعر الجديد للدولار ، وقد تأملالمتضررون أن تعاد أسعار الصرف لسابق عهدها عندتحسن أسعار النفط وتشارك مع هذا الأمل معالمواطنين بعض السياسيين ممن تعهدوا ببرامجهمالانتخابية على إعادة هذا الحق بعد إن اطلعوا علىالمعاناة التي أحدثها هذا التحول بأسعار الصرف ،وبعد أن تجاوزت أسعار النفط ضعف تقديراتها فيموازنة الورقة البيضاء ، وفي لحظات الانتظار لتحقيقذلك ( الحلم ) في موازنة 2023 بدأت أزمة جديدةللدولار تصدع رؤوس العراقيين وتؤجل الأمل لأجل غيرمعلوم بارتفاع أسعار الصرف لما يلامس 1503 دينارلكل دولار ، ورغم إن الحكومة والبنك المركزي أطلقواوعودا بإعادة أسعار الصرف خلال أيام إلا إنالانكماش في الأسواق يبدو واضحا للعيان ، والخوفمن القادم يدب في نفوس العراقيين الذين لم يهنئوايوما في علاقاتهم مع الدولار وهم ينتظرون الموعد الذينيتخلصون به من سطوته ليعيشوا بعراقيتهم بلا دولرةولا هم يحزنون بعيدا عن متاعب الدولار .