منارات عراقية … نزيهة سليم … ريادة وأصالة وتشكيل عريق

سيار الجميل

الراحلة نزيهة سليم واحدة من أروع الفنانات التشكيليات العراقيات اللواتي لمعن في القرن العشرين، تلك المرأة العراقية التي أسدت للثقافة العراقية أجمل الاعمال الفنية، رحلت نزيهة الى دار الابدية لتتخلص من اوجاع الوطن المدمّرة بعد حياة تقدر بواحد وثمانين سنة، كانت مليئة بالإنتاج الفني الأصيل، وكانت مثقلا بالإبداعات.

رحلت تلك المرأة العراقية الحقيقية التي لم تعرف الركود الا في اواخر ايامها.. ذهبت تلك الشعلة الحيوية إلى رحلة النهاية لتسجل خاتمة محزنة لتاريخ ثقافي خصب من الفن التشكيلي الذي وصل درجة العالمية.. رحلت نزيهة سليلة بيت تنوعت فيه ألوان الثقافة تنوعا قلما نجده في بيوتات اخرى، رحلت مع كل احزانها وهي تري العراق مثقل بالأوجاع والجروح، رحلت من كانت تبكي بحرقة على ماض تليد، وقد غابت عن حاضرها قسرا، رحلت وهي وحيدة تعيش أقصى درجات الكآبة في عزلتها التي فرضها عليها الزمن الصعب.. رحلت انفاسها الى بارئها في البيت الذي عشقته، فهو بيت جواد الذي كان قبلة للأصدقاء من فنانين ومثقفين وشخصيات مجتمع وادباء ومناضلين.. وغدا موحشا بكل ما فيه والغبار كسا كل لوحاته واشيائه الثمينة.. رحلت وفي مقلتيها دموع العاشق الموله الذي افتقد حبيبته.. ولم يعد يسمع الا نعيق الجهلة والمارقين والبدائيين. رحلت وتركت بيت جواد وآثار نزيهة بعد ان كانت تتأمل منذ سنين منتظرة وعد كاذب بأن يكون بيت جواد متحفا في قلب بغداد.

 

رحلت بكل ذكرياتها الخصبة عن ريادة ابيها الذي كان قد نبت في ازقة الموصل او عن ريادة اخيها الذي كان قد فرشت سمعته الافاق الانسانية، رحلت تلك الفنانة العراقية القديرة التي عاشت عزيزة النفس أبية، على الرغم من الضنك والحاجة في اواخر ايامها، كي تبيع أغلي لوحاتها، فليس هناك أقسى من الفاقة عند من تعز عندهم أنفسهم، اقصد اعزاء قوم، رحلت من كانت تعيش هواجس الخوف والترقب في سنواتها الاخيرة. اذ علمت بأنها كانت تعيش رعبا حقيقيا من قتلة ولصوص ونصابين.. فهي تعيش في متحف حقيقي.. رحلت تلك المبدعة العراقية بعد ان لمع اسمها منذ خمسينيات القرن العشرين، اي قبل أكثر من نصف قرن ابان العهد الملكي.. ولكن لم يلتفت لها اي نظام من انظمة الحكم المتعاقبة حتى من بعد رحيلها.

ماتت وهي تصارع هواجسها بعد ان اغلقت الابواب عليها خوفا من اولاد الشوارع وعصابات القتل، كانت تنتظر ساعة رحيلها المؤلم، اذ كان مرضها يلازمها منذ وقت طويل، رحلت ويرحل معها تاريخ الفن العراقي الحديث.. اذ لم يتبق من عمالقته الا القليل. شجرة كبيرة في الفن التشكيلي: نزيهة سليم.

كانت نزيهة غصن شجرة وارفة الظلال، فالأب محمد سليم بن علي الموصلي من رواد الرسم في العراق فضلا عن كونه احد ضباط الجيش العثماني، وكان قد ولد في محلة السوق الصغير بالموصل ونشأ ودرس في مدارسها قبل ان يغادرها.. ذلك الاب الذي تقول الاوراق القديمة عنه بأنه كان فنانا حاذقا في كل الالوان الفنية ويهوى الطبيعة والخيل والشعر وزهور الربيع ..
وكانت نزيهة محمد سليم، الى جانب اخوتها سعاد وجواد ونزار هي الوحيدة المدللة بينهم.. ويكبرها جواد بثماني سنوات، وهي من مواليد 1927، وليس من الغرابة ان يكون ابناء محمد سليم جميعهم من أمهر الفنانين والادباء والموسيقيين وعشاق الحياة والكلمة والادب.. وإذا كان جواد قد بّز الجميع بتفوقه وشهرته العالمية، فقد كان سعاد من اروع الفنانين، وغدا نزار من أبرع المثقفين العراقيين.. وجواد نفسه كان قد درّس اخته نزيهة تاريخ الفن في معهد الفنون الجميلة ببغداد. ثم اكملت دراستها للفن في المدرسة العليا للفنون الجميلة في باريس (1947- 1951) على مدى أربع سنوات، حيث تخصصت في الرسوم الجدارية (الجداريات) وكانت تطلب علوم الرسم التشكيلي على يد الفنان الفرنسي (فرناند ليجيه).

كان باستطاعتها البقاء كمعلمة للفن في فرنسا بسبب تفوقها حيث كانت الرابعة علي دفعتها في جائزة روما، لكنها اختارت ان تعود للعراق علي الرغم من الآفاق التي فتحت لها في الخارج. عملت استاذة بمعهد الفنون الجميلة منذ عودتها من باريس ومحاضرة في كلية الفنون الجميلة. واصبحت نزيهة في مقدمة المثقفات والتشكيليات العراقيات المتميزات، لقد عاشت نزيهة تجربتها الفنية باسمي تجلياتها في النصف الثاني من القرن العشرين، وكانت قد اشتهرت منذ مطلع الخمسينيات، وانضمت الى الجماعات الفنية سواء تلك التي قام بتأسيسها اخوها جواد، اي جماعة بغداد للفن الحديث عام 1951، وتلك التي قام بتأسيسها آخرون اذ ساهمت في تأسيس جمعية الفنون التشكيلية، وكانت مساندة لجماعة الرواد الفنية.

ذكريات الأصدقاء

كان قد حدّثني عنها اكثر من صديق وقريب، وكلهم يشيدون بإمكاناتها الفنية التي لا يمكن ان تضاهى ناهيكم عن احساسها المفرط بالطبيعة والحياة العراقية الخصبة، وكان رحيل جواد قد قصم ظهرها، اذ كانت تعتبره رائدا حقيقيا ليس لها وحدها، بل لجيل عريض من الفنانين العراقيين، كانت متفائلة دوما بالحياة ودوما ما تقدم الايجابيات في حياتها على السلبيات، ولا يمكن ان نتصور دفق عواطفها، وخصوصا ازاء اخوتها الثلاثة ، فهم يشكلون مربعا ذهبيا ساطعا، كما كانت تصفهم احدى صديقات نزيهة وهي تقطن قربها في الوزيرية عند كلية الفنون الجميلة ، وقد حزنت نزيهة على رحيل صديقتها قبل سنوات بعد ان افتقدتها. وكنت قد طلبت من صديقتها بعض المعلومات عن جواد سليم وزوجته التشكيلية والمثقفة البريطانية لورنا سليم، وانا اكتب كتابي (انتلجينسيا العراق: النخب المثقفة في القرن العشرين)، وقد وافتني بصفحات كتبتها نزيهة عن جواد.. اما لورنا، فكانت قد ذكرت في ذكرياتها العراقية أجمل الكلمات عن نزيهة وقابلياتها غير المحدودة وصبرها في العمل وارتباطها المتفاني بالعراق التي عبرت عنها في عشرات اللوحات والرسومات المشبعة بالروح العراقية. ويحكي لي الموسيقار الراحل فريد الله ويردي عن نزيهة كونها دقيقة جدا في تخطيطها، حالها حال جواد، ولكن جواد أسرع منها، لكنها لها القدرة والمهارة في تقدير حجم الانعكاسات الضوئية

 

منهج التأصيل واسلوب الحداثة

لقد قضت نزيهة قرابة اربع سنوات في باريس تدرس الفن التشكيلي بتفوق كبير، وكانت من اولى النسوة العراقية ات في (البوزار) ووقفت عربيا الى جانبها الفنانة اللبنانية القديرة سلوى روضه شقير (مواليد 1916) والتي تخرجت في اروقة البوزار أيضا، وعادت نزيهة الى العراق كي تترجم على غرار شقيقها جواد منهجا في التأصيل، فلقد ابدعت في تصوير الحياة العراقية في لوحات متنوعة عن المرأة العراقية والسوق العراقية والحارات البغدادية.

انها رائدة في الواقعية ولكنها سلكت طريق الحداثة من خلال التجريد، مستفيدة من منهج اخيها جواد. لقد ترجمت معاني عديدة من المجتمع الذي بقيت ملتصقة به حتى آخر لحظات حياتها.. ولم تعط اهتمامها لنفر معين من البشر، بل اجدها قد اعتنت بطريقة غير عادية برسوم الأطفال، وبرعت في رسم البورتريهات واكملت زمالة لمدة عام في المانيا الديمقراطية للتخصص برسوم كتب الاطفال ومسرح الأطفال.

مع كل الاسف، كانت لوحات الفنانة نزيهة سليم قد سرقت من المتحف العراقي للفنون عام 2003 عند اجتياح جيوش التحالف الامريكي شوارع بغداد، ولم يبق من تلك الاعمال سوى عدد قليل جدا.

الريادة النسوية

لقد اندمجت بالمجتمع الذي راحت تدخل أعماقه لتلتقط صوره، فتعيد انتاجها بريشتها، كانت تلاحق بعض النسوة لتشتري جلوسهن بالمال من اجل رسمهن انها تعتبر والدها معلمها الاول، وهي تعد جوادا استاذها الحقيقي الذي درّسها في كلية الفنون، فتأثرت بالنزعة الفنية لعائلتها المؤسسة، وتأثرت بأخيها وتجد نفسها واحدة من اللواتي ساهمن بأمانة واخلاص في النهضة الفنية العراقية التي شهدها العراق في القرن العشرين، وخصوصا مع الانطلاقة الحيوية للمثقفين العراقيين ابان الاربعينيات والخمسينيات ـ كما تقول ـ. إنها مفخرة عراقية رحلت من دون احتفاء يليق بها شأنها شأن المبدعين الكبار الذين رحلوا بصمت.

قد يعجبك ايضا