د. أحمد حسين البدري
في هذا المقال نود الوقوف على دور الحكومة العراقية في إدارة النشاط الاقتصادي ومعرفة مدى انقياد الاقتصاد العراقي للأنظمة والنظريات والآراء الاقتصادية، بعبارة أكثر دقة، توصيف إدارة الاقتصاد العراقي بعد عام 2003. والتطرق إلى النظريات الاقتصادية ليس الغرض منها السرد التاريخي والفكري للمدارس والنظريات الاقتصادية بل للوقوف على الدور السلبي التي تنتهجه الدولة العراقية الحديثة في إدارة النشاط الاقتصادي. في الحقيقة أثرى الفلاسفة القدامى الفكر الاقتصادي بالعديد من النظريات والآراء الفكرية الاقتصادية والتي أغنت الفكر الاقتصادي في تلك الحقب ومازالت تنتهج وتطبق معظم الآراء على الرغم من بساطة التعاملات الداخلية والخارجية وعدم ظهور العولمة بحلتها الجديدة التوسعية في الماضي. لكن كانت غاية الدولة في تلك الحقب المنصرمة تحقيق التنمية الاقتصادية وليس المكاسب الحزبية والشخصية. وقد أجتمعت أراء معظم الاقتصاديين على إن معظم النظريات والآراء حققت قفزة كمية ونوعية في تطوير التنمية والنمو الاقتصادي في تلك الحقب. وعند الكلام عن الاقتصاد العراقي وموازناته الانفجارية من جهة وبساطة التنمية الاقتصادية من جهة أخرى، ربما يتبادر إلى أذهان البعض رداءة النظام الاقتصادي المتبع. إذ ربما يسأل سائل عن نهج إدارة الدولة العراقية بعد عام 2003 هل هو نظام اقتصاد السوق الحر أو نظام الإدارة المركزية للاقتصاد؟ وهل إن النظام المتبع هو السبب الرئيسي وراء النمو البطيء في الاقتصاد العراقي؟
في الحقيقة ليس هنالك اتفاق مشترك بين الاقتصاديين حول تحديد مفهوم التحول نحو اقتصاد السوق بصورة عامة. ولعل تعدد الأبعاد المتعلقة بالمفهوم ومدى شائكيته، تعد من أكثر الأسباب المفسرة لهذا الغموض وعدم الاتفاق. فالأدبيات والتجارب التاريخية تشير إلى تعدد أبعاده، فمنها ما هو فلسفي ومنها ما هو نظري وغيره ذو بعد تاريخي وآخر فكري. لذا فان مضامين التحول لا تقتصر على الجوانب الاقتصادية بل منها ما هو اجتماعي وسياسي أيضا. إن عملية التحول كانت موضوع نقاش وتحليل في أروقة المؤسسات الدولية وبحوث المختصين وصناع القرار الاقتصادي، إذ لا توجد نظريات أو مبادئ توجيهية موحدة ومتكاملة توجه بوصلة التحول الاقتصادي بصورة شاملة ومناسبة لجميع الدول. ويرى البعض أن التحول الاقتصادي وسيلة لتحقيق مجموعة أهداف تتراوح بين تخصيص جديد للموارد وإعادة هيكلة ورفع مستوى الكفاءة. ولكي يتحقق ذلك، وبعد عملية تحرير الاقتصاد، ينبغي توفير إطار أو بيئة أعمال مناسبة لكي يمارس القطاع الخاص الجديد دوره بصورة طبيعية وفي إطار مؤسسي قانوني يحمي الملكية الخاصة ويوسع الحركة في الأنشطة الاقتصادية. ويصف آخرون التحول بأنه عملية تغيير مستمرة في الهياكل الاقتصادية، أي إلغاء القديم وتأسيس نظام جديد، وانتقال الاقتصاد من نظام معين إلى نظام أكثر تطورا وأكثر تناسبا للواقع. وهذا يعني أن عملية التحول هي عملية تغيير فعلي تلبي احتياجات الواقع من حيث الأفراد والمؤسسات والحكومات والعلاقات الدولية من خلال إعادة هيكلة الأنشطة القديمة إلى الأنشطة الجديدة. وهناك من يرى بان عملية التحول تأتي عبر تفكيك مجموعة آليات كلية وجزئية موروثة، وتشكيل أخرى تسمح بظهور نظام جديد. ويرى البعض الآخر إن التحول نحو اقتصاد السوق يعني التوجه نحو سياسة قائمة على تقليل أو تقييد التدخل المباشر للدولة، وتخفيض درجة القيود المفروضة على مجمل النشاط الاقتصادي، وتعزيز دور قوى السوق في توزيع الموارد الاقتصادية، وتحسين قدرة المؤسسات المالية في تعبئة المدخرات بغية تعزيز مستوى كفاءة النشاط الاقتصادي.
وعند تناول الفكر الاقتصادي من حقبة الفكر الاقتصادي الحديث المبكر والذي يتمثل بفترة التجاريين والفيزوقراطيين وتطبيق أفكارهم الاقتصادية على واقع الاقتصاد العراقي ودور الدولة في التدخل في النشاط الاقتصادي، نجد ان المركنتاليين شجعوا بتدخل الدولة في النشاط الاقتصادي بغية تحفيز الصادرات ورفضوا استيراد السلع النهائية وخلق احتكارات تجارية يمكن ان تساعد على تقوية قطاع الأعمال والدولة في ان واحد، لقد تميزت المركنتالية بالاعتقاد الجازم بمزايا و فوائد تدخل الدولة إذ هي الوحيدة القادرة على ترجيح كفة الاعتبارات الاقتصادية للمجتمع بأكمله ضد المصالح الشخصية المتناقضة وفتح أسواق جديدة لتسويق الإنتاج وحماية الاقتصاد الوطني بشكل عام بكل الوسائل داخليا وخارجيا، وكان الميزان التجاري من وجهة نظر التجاريين يعبر عن مدى قوة الدولة .وهذا ما انتهجته الصين بالفعل حاليا كدولة حديثة، والتي أقرنت قوة الدولة بالثروة للوصول إلى ميزان تجاري فائض. ويرى الدكتور مظهر محمد صالح، إن الاقتصاد العراقي في ظل اعتماده على الإيرادات النفطية هو أحوج ما يكون إلى دور اقتصادي للدولة يسهل الشراكة والاندماج مع النشاط الخاص، عبر تركيبة فكرية ومنهجية اقتصادية تمثل عودة إلى الماركنتالية الاقتصادية الجديدة والترويج لأيديولوجيا النشاطات الخالقة للسوق أو ما يسمى بحركة مناصري نشاط الشركات المشتركة –المؤلفة من ملكية الدولة وملكية الفرد معاً أو بالأحرى ما يمكن تسميته بالماركنتاليين الجدد، هي النظرة التي ترى في التحالف الاقتصادي بين نشاط الدولة وقطاع الأعمال، وهذا يقود إلى التنمية المستدامة بدوره. ونحن نتفق مع الدكتور مظهر إلى حدٍ ما، اذا كانت غاية وهدف صناع القرار في الحكومة من تحقيق التنمية الاقتصادية المنشودة، لكن في الحقيقة إن الخلل لا يكمن في اتباع نظام اقتصادي معين ، فكل النظم تقود بالنهاية إلى التنمية ولكن بمعدلات ووتائر اسرع حسب رأي رواد كل مدرسة. وفي رأينا كل النظم سوف تواجه نفس المصير ولا تحقق أي تقدم ملموس في العراق. فالعراق يواجه تحديات تنسف كل الرؤى والنظريات مع شديد الأسف. ان مشكلة العراق في تأسيس النظام السياسي بعد عام 2003 ، حيث تشكل النظام السياسي من مجموعة من الأحزاب التي تسعى إلى المكاسب الحزبية والقومية والمصالح الشخصية، ولم تسعى إلى تحقيق رفاهية اقتصادية واجتماعية. لذا لم تنجح التجربة الحزبية الحالية في العراق يوما ما في بلادنا إذ سارت الأمور كما هي عليه الآن، بل كانت سببا في التخلف السياسي والاقتصادي وعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي. من جهة أخرى، إن التكتلات الحزبية في الدول المتقدمة اقتصاديا وغيرها، ومنها الصين، هي أحزاب تسعى إلى تطوير مصالح أوطانها وتقدمها سياسيا وعسكريا واقتصاديا واجتماعيا مهما اختلفت وتصارعت فيما بينها تبقى بالنهاية غايتها ازدهار الدولة.
وعند النظر إلى الدولة العراقية الحديثة ما بعد عام 2003، نجد إنها تسعى بتحقيق هدف الدولة في الفكر الكلاسيكي، حيث طالب رواد هذا الفكر بمبدأ سيادة الحرية الاقتصادية وحصروا دور الدولة في القيام ببعض الوظائف كالدفاع الخارجي والأمن الداخلي والعدالة والقيام ببعض الخدمات الأساسية التي يعجز القطاع الخاص للقيام بها بحكم انخفاض أو انعدام الملكية فيها. في الحقيقة فشلت الحكومة العراقية في تحقيق دور الدولة الكلاسيكي والذي يتمثل بالدفاع الخارجي، حيث أصبح انتهاك سيادة العراق أمراً متكرراً، وخصوصا من قبل جيرانه. حيث ترى ايران إن امنها السياسي والاقتصادي والاجتماعي يصبح في خطر عند عدم تدخلها في الشأن العراقي، وكذلك هو الحال لتركيا، حيث تبرر انتهاكها لسيادة العراق بملاحقة الحزب الكرديّ المسلّح الذي تعتبره تهديدا خطيرا لأمنها القومي. وليس يقف الأمر عند التدخل الإيراني والتركي، بل والأمريكي والخليجي وغيرهما من اجل الحفاظ على مصالحها تلك الدول. أما الدور الثاني للدولة والذي يتمثل بالحفاظ على الاستقرار والأمن الداخلي، إن المكاسب الحزبية والمصالح الشخصية وقفت مرار وتكرار حائل أمام تحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي. العامل الأخر وليس الأخير غياب العدالة في توزيع الثروات وازدياد الفقر وتفاقم البطالة في العراق أثر على إمكانية بناء العدالة الاجتماعية وبالتالي خالف دور الدولة في النظرية الكلاسيكية التي طالبت بالتشغيل الكامل.
تختلف قضية إدارة الاقتصاد في العراق عن ما سبق، فلم تلتزم الحكومات العراقية المتعاقبة منذ عام 2003 بمبادئ النظريات والآراء والنظم الاقتصادية، وواجه الاقتصاد العراقي أزمات واضطرابات كثيرة، كانت محل جدل الاقتصاديين العراقيين. وهذه الأزمات كانت تارة بسبب الإدارة السيئة للاقتصاد والاعتماد على عائدات النفط لتمويل الموازنات الجارية والاستثمارية وتحمل عبء تمويل القطاعات الأخرى الصناعية والتجارية والزراعية والسياحية والنقل وغيرها، وتارة أخرى بسبب الادعاءات الكاذبة فهناك مكاسب حزبية وشخصية تسعى لها هذه الحكومات. وهو الاستخدام السيئ للصلاحيات بواسطة الدستور والقوانين والتعليمات النافذة.
كل حزب من الأحزاب الحاكمة يمتلك لجنة اقتصادية. تقوم هذه اللجان بتحقيق إيرادات مالية ضخمة. وفي الحقيقة يعد تشكيل اللجان الاقتصادية مخالفة قانونية حسب التشريعات العراقية، ومن المفترض أن الدولة هي من تلتزم بتطبيق القوانين والتشريعات من اجل الاستقرار السياسي ومن ثم الاستقرار الاقتصادي ، فقد أشارت ( المادة 38-أولاً-ثانياً-ثالثاً) من قانون الأحزاب السياسية رقم (36) لسنة 2015 إلى أنه ( لا يجوز للحزب السياسي مزاولة أعمال تجارية بقصد الربح ماعدا(2):
أولاً: نشر وإعداد وتوزيع المطبوعات والمنشورات أو غير ذلك من مواد الدعاية والنشرات السياسية والثقافية.
ثانياً: النشاطات الاجتماعية والثقافية.
ثالثا: الفوائد المصرفية.
رابعا بيع وإيجار الممتلكات الممولة له). فالهيئات الاقتصادية تقوم بالسيطرة على العقود في الوزارات التابعة لها وإحالتها لرجال أعمال تابعين لهم، مما أضاع على العراق مليارات الدولارات منذ العام 2003، عبر المشاريع الوهمية والمشاريع التي لم تنجز والتي بلغت 7055 مشروعا. أيضا تقوم الأحزاب بتبيض الأموال وتزوير الوثائق وغسيل الأموال والسيطرة على إدارة إيرادات أجهزة ودوائر الدولة. علما بان الإيرادات التي تحصل عليها هذه الأحزاب لا تذهب إلى نشاطات اقتصادية أساسية تساعد في تحريك عجلة الاقتصاد العراقي وإنما تذهب معظمها إلى الدعايات الانتخابية للأعضاء المرشحين عن الكيانات السياسية المختلفة، وكذلك تذهب إلى خارج العراق، لتعود وتدخل على شكل حوالات رسمية لدعم الاستيرادات العراقية الغذائية أو تبنى جزر سياحية وفنادق وحصص باسهم وسندات شركات عالمية سياحية وصناعية وخدمية.
وبناءً على ما تقدم يمكن القول بآن الاقتصاد العراقي اصبح بين مطرقة المكاسب الحزبية والشخصية للأحزاب الحاكمة وسندان الفساد، وبهذا أختلف دور الدولة العراقية في إدارة النشاط الاقتصادي عن ما كان عليه في الفكر الاقتصادي المبكر ( المركنتاليين) والحديث ( الكلاسيكي ). في النهاية لا يسعني إلا ان أشكر فريق التحرير لما قدمه من جهد بمراجعة مسودة المقال وأبداء الملاحظات.