عشت نصف قرن فى قعر«فن الواو» حتى سكنته وسكننى … الشاعر عبد الستار سليم:راوى السيرة وبائع السوق وعديد أمى علّمونى الشعر

 

أسامة الرحيمى

 

الصعيد الجوانى يعوم فوق بحيّرة لا نهائية من فنون القوالة

«الواو» فن شعبى ابتداعه  قوالون أميون لانتقاد المماليك والعثمانيين

هذا مبدع دؤوب. يسعى طوال الوقت على كل الجبهات بلا كلل!

 

ومدرس رياضيات بذل عقودا من عمره فى التعليم بإخلاص فريد، وتخرج من بين يديه عشرات الأجيال، وارتقى للتوجيه، حتى وصل إلى وكيل أول لوزارة التعليم!

 

يقرض الشعر، ويمارس النقد، ودرس الموسيقى، وقدّم برامج تلفزيونية، وحلّ ضيفا على عشرات الإذاعات، ولا يزال يطوى المسافات بين البلدان مهما استطالت عليه لنشر الفن وإعلاء الإبداع بحماس الشباب رغم عبوره العقد الثامن. أطال الله عمره.

 

ويشارك فى كل المؤتمرات، ويكتب للمجلات المتفرقة، ولا يتردد فى إمداد أى باحث بآخر تنقيباته الثقافية، ولا يبخل على أية جهة بكل ما لديه من خبرات ومعرفة، وبسخاء لا يصدق.

 

شغفه فنّ القوّالة، وصوره الشعرية المذهلة، وجرح صوت الربابة قلبه وملأه شجناً فى طفولته المبكرة، وعشق السيرة الهلالية، وفتنته المربعات، وندهته، فتتبعها، حتى وقع فى غرام «فن الواو»، وبرع فيه حتى بات من كبار القوّالين، وعرف أسراره وقبض على مفاتيحه، واكتشف خفاياه، فتمكن من بلورته وتقعيده، وتحديد بحره، فانفتح أمامه مدى لانهائى من «نثار الواو» فى أنحاء الصعيد الجُوَّانى، فجاب القرى والنجوع، والصحارى، وتعقّب القوالين من العامة والأميين، وأدرك أن الواقع ينعم ببحيرة شاسعة من ثمار الواو وفنون التربيع، فتنكب رواته قدر استطاعته، بلا مساندة، ولا رعاية من أحد، وجمع من تراثه ما طُبع فى أربعة مجلدات، وألّف بنفسه ما يماثلها تقريبا، فصار الواو يعرف به، وأصبح هو علامة للواو. فرُحنا نناديه «أمير الواو» بأريحية وامتنان، للجهود الهائلة التى بذلها فى إحياء هذا الفن العظيم، وإنقاذه من الاندثار، وزاد عليه بأن خصص له فرعا فى جائزة أطلقها قبل سنوات، واكتسبت مصداقيتها من إخلاص «عبد الستار سليم»!

 

ما الذى أوقعك فى غرام فن الواو، ومتى كانت البداية، وهل كانت لديكم حفلات لهذا الفن خصّيصا؟

 

فى صِّغَرى، استمعت إلى القوّال فى الساحة أمام المُندرة، حيث كان خال والدتى، كبير العائلة يدعوه مساء كل خميس، بعد العشاء، وعلى ضوء الفانوس كانت السهرة:

 

كتْــرِت فوانيسها والكلـوبّـــات

 

ولُـمَض الصفيح بطّـلـُوها

 

شوف الفروخ الْـخالية ابّــات

 

جات اليوم تِـحْـلِـف بابُـوهـــا

 

هذا القوّال كان يتغنى بما جرى بين «أبو زيد الهلالي»، و«الزناتى خليفة»، و«دياب بن غانم»، فى «السيرة الهلالية» كما عرفتها حين كبرت وتعلمت، والمصدر الثانى كان بائعا فى سوق القرية يفترش الأرض بجوار درابزين السوق، واشتريت منه رسوما لفارس على حصانه وبيده حربة وسيف، الواحدة بنصف «تعريفة» (خمسة ملّيمات)، الذى غذّيَ حبى لهذا الفن. وكانت «أمّي» رحمها الله ثالث أسباب تعلقى به وهى تنُوح بالعديد على أبى بعد موته، والعدّودة تختلف حسب الميت، فمن مات صغيرا، غير الكبير، والبنت غير الولد، والزوج ليس كالأب، ومن مات فى فراشه يختلف عن القتيل، أو المريض، والغريق، ومن مات بين أهله ليس كمن مات غريبا!

 

وسهرة ليلة الجمعة كانت سلوانا الوحيدة فى قريتنا الفقيرة، وبعض الحضور يجلسون على المصطبة، وآخرون يفترشون الـحُصْر، والأطفال مثلى يتسلقون أفرع الجمّيزة، أو النَّبَقَة (السِّدْر)، المحيطتين بالساحة لنستمع للقوّال.

 

 

 

 

الرحيمى مع الشاعر عبدالستار سليم

 

كيف تصف «فن الواو» للقارئ، وتُلفت نظره للفروق بينه وبين الفنون المتشابهة؟

 

«فـن الواو» شعر شعبى، ابتدعه أُناس أُمّيّون من أهل الجنوب، يحلو لى تسميتهم «القوّالين»، مقابل الشعراء أبناء المدارس، وكانوا يستهلّون أشعارهم بعبارة (قال الشاعر)، والغرض الشعرى لفن الواو كان الشكوى من الزمان، وغِدر الخلّان، وينطوى على حِكَم، وغزليات. وأفرزته جلساتهم الطويلة نهارا أو ليلا، بالأخص ليالى السّـمَـر القمرية فى الساحات والمنادِر، وفى الأجران، أو المساطيح (أرض فضاء تحت الشمس تُجفف فيها الذرة والبلح). والواو فنُّ قولى فى قالب المربع، يُصاغ بإحكام، وقوافيه تُحلَّى بالجناس، ولا يكون فيه إقحام ولا تكلّف ولا اصطناع، وتستقل قوافيه ومضامينه عن سابقه ولاحقه، وبحره الشعرى مجزوء البحر المجتثّ (بحر خليلي) وزنه (مُسْـتَـفْـعِـلُنْ فاعِلاتُنْ)، وله تقفية خاصة، فالشطران الأول والثالث بقافية، والثانى والرابع بقافية أخرى، وللواو نصيب كبير من «الجناس اللغوي» أحد مظاهر الفنون الشعرية غير الـمُعربَة، مثل مربع «ابن عروس»:

 

لا بِـدّ من يوم معلوم

 

تِـــتْـرَدّ فيه المظالم

 

أبيض على كل مظلوم

 

أسود على كل ظالم

 

وإذا لم يتحقق الوزن والتقفية فى المربع لا يكون من «فن الواو».

 

ومثاله مربع لـ «بيرم التونسى» ليس من فن الواو:

 

إن كنت تطلُب رضَى الله

 

يجعـلّك الناس عــبيدك

 

وان كنت تطلب رضَى الناس

 

أقلّهم يبـقَى ســيدك

 

وهو مربع موزون، لكن اختلفت فيه قافية الشطرين الأول والثالث، لذا فليس من «الواو».

 

والواو نشأ وترعرع فى الصعيد الجوانى (قنا حاليّا)، فلا يجب أن تغيب خصائصه، ولغته تحتاج لوعْيِّ كبير به، وسط جمهور تربّى على المربع، وأدمن لُعبه الفنية، وجعله وعاء حكمته، وملخصاً للمعانى ذات الطابع الفلسفى، ولغة «مربع الواو» عادة تكون عميقة وبسيطة، وهذا ما أطمع فيه غير الموهوبين. وعندما نقول «فن الواو» قنائى نقصد مراعاة التعامل مع المفردة اللغوية شكلا ومعنى.

 

ومربع الواو قصير، ويحوى تجارب ضخمة، متعددة الدلالات، فلا يقدر عليه إلا من لديهم قدرة على التجريد، ويمتلكون ثروة لغوية هائلة.

 

ـ تعنيِ أن الواو له خصوصية مكانية واجتماعية خاصة بإقليم وثقافة جماعة؟

 

لكل أدب بيئته لا يمكن فصله عنها، ومن يتجاهل خصوصية إقليم معين يسقط روح الإنسان ونفسه وتاريخه. ولأن الواو قنائى استطاع استيعاب القصّ الملحمى فى السيرة الهلالية، فيقول مثلا:

 

ولا عايمة إلّا ما تِرْسِيِ

 

وتيجى برّها بالسلامة

 

تسعة وتسعين كُرْسيِ

 

وقفوا للُاسْمَر سلامة

 

واستُخدِم مربع الواو أيضا فى الألغاز والأحاجى، للتسلية، وشحذ القرائح فى مجالس السّمَر. قال أحدهم:

 

إن كنت راجل وفنّان

 

وتْبان عليك الشطارة

 

قولّى السما كام فدّان

 

وادّيك عليها أمارة

 

فرد عليه آخر بقوله:

 

صلاة النبى تمنع ابليس

 

فيها الفايدة والتجارة

 

اسحب قصَبْتَكِ وقيس

 

ووراك انكِّـت حجارة

 

والواو ضارب بجذوره فى أرضنا، فتجد لغة «ابن عروس» من صميم جماعتنا الشعبية.

 

ـ الواو والموال الرباعى، والدوبيت، والرباعية، والعدّودة، والنميم، والمسدار، ونعناع الجنينة، والعتابا فى الشام، والأبوذية فى العراق. لما كل هذه المسميات وهى كلها مربعات؟

 

مسميات ضرورية. وفنون عائلة التربيع كثيرة. وبينها اختلاف فى شكل المربع، وهى بنت الشعوب، وكل جماعة تبتكر لنفسها فنًّا قولياً يلائم عاداتها وتقاليدها، ومكانها، ولسانها المحلى، وأى إبداع لا يخاطب الناس بلغتهم لا ينجح. وفى قنا توافقوا على قالبه وأسموْه «القُولة»، وحدّدوا له بحرا خاصًّا، والقافية تُنهى البيت وتساعد على حفظه، ومبدعو «الواو» اعتادوا حفظه لأنهم أمّيّون، ولانعدام وسائل التسجيل، وجُعل الواو للشكوى من الزمان وغدر الخلّان، وتوسعت أغراضه الشعرية. فاستُخدم فى صياغة «سيرة بنى هلال»، وكوسيلة مخاطبة، وفى التبارى اليومى، ومما يذكر، أنه حين مات عمدة قرية «الرماد»، تأخر أهل قرية «طوناب» عن واجب العزاء إلى اليوم الثانى، وحين ذهبوا لاموهم، فقال أحد قوّالى «الرمادي»:

 

طُوناب مااطْوَل طونابكم (الأحبال)

 

ساكنين فى طرْف وادى

 

ياك الخبَـر ما جا بلدكم

 

يوم مات سبع الرمادي

 

فردّ عليه أحد قوّالى «طوناب»:

 

طُوناب مااطْوَل طونابنا

 

ساكنين فى طرف وادى

 

جانا الخبر فى بلدنا

 

وِالْـ أخّـرتْــنا المعـادى (القوارب).

 

والواو يعتمد التورية واللامباشرة، لتفادى الرقابة حين كانوا ينفّثُون عن أنفسهم بانتقاد حاكم مملوكى أو عثمانى، واعتمدت قوافيه على التداخل الصوتى، فكان القوّال يلجأ إلى حيلتين أساسيتين لإخفاء نفسه، الأولى جناسات القوافى، والأخرى نسب القول إلى مجهول، والتوارى خلف عبارة: «قال الشاعر»: وكأنه ليس الشاعر، لتفادى القمع.

 

تجربتك فى جمع فن الواو من أفواه الحفَظَة والقوّالين تمتد لأربعة عقود، فما الفروق بين أنواع الواو؟ هل هى جغرافية أم اجتماعية أم طبقية؟

 

من له دراية بالفنون القولية، يعلم أنها وصلتنا شفاهة، ولم تُسجّل، وأنها بنت العصرين المملوكى والعثمانى، وكثير من نصوص الواو التى وصلتنا يعتريها خلل وزنيّ، وفيها قوافى مُقحمة، لأسباب عدّة، أولها الاعتماد على ذاكرة الحفظة، التى يصيبها النسيان، فيضع الراوى كلاما من عنده فيسبب ذلك الخلل، أو أنه لم يسمع جيدا من القوّال الأصلى، أو لم يفهم معنى الكلمة الأصلية، إلى آخر عيوب المشافهة، لذا يستطيع الخبير معرفة العصر الذى قيلت فيه النصوص، والجغرافيا تؤثر على نطق الكلمة، فهى تختلف باختلاف مواضع النبر على مقاطع نفس الكلمة من لهجة إلى أخرى. ونكتشف نصوص عصرنا الحالى، فنكتشفها بسبب بعض الألفاظ الفصيحة التى لا تؤدى إلى معنى ملموس لدى الخبير بهذا الفن.

 

وثمّ فروق فى استخدام اللفظ لذاته مرّة، وضمن تركيبة الجملة مرة، تعود لإعجاب بعض المثقفين بالواو واختلط عليهم الأمر، فهم يفكرون بالفصحى، ويكتبون بالعامية، وكان يجب عليهم الذهاب إلى القرى والنجوع، ليختلطوا بمجتمعات هذ الفن، ويرونا كيف يتكلمون، ويعيشون حياتهم، ورحم الله الأبنودى، فحين لاحظ ذلك قال: «فن الواو أصبح مطية من لا مطية له»، خاصة من يجهلون اللهجات.

 

كيف يمكنك إدراك الدخلاء، والألفاظ الدخيلة؟ وهل يمكنك التقاط الفارق الزمنى بين القديم والحديث؟

 

من عاش مثلى أكثر من نصف قرن فى قعر هذا الفن، حتى سكنتُه وسكننى، يستطيع التقاط الكسور الوزنية، واكتشاف الألفاظ الدخيلة، فهى عادة تضفى ركاكة، وتفسد مذاق الواو الشعبى.

 

هل جمعت فن الواو، من القدماء فقط، أم هناك جيل جديد من القوّالين؟ وهل يمتلكون إمكانات الأجيال القديمة؟

 

وفقنى الله مع صديقى المخرج اسماعيل الشيشينى لتقديم على شاشة القناة الثامنة (طيبة الآن)، قدمنا عبره كثيرا من حفظة فن الواو، وكنا نذهب إليهم فى قراهم، من أسوان إلى أقصى شمال سوهاج، مرورا بقنا والبحر الأحمر، وصورناهم فى الحقول، وأمام دورهم، وبجوار النيل، وفى مراكب بالنيل، واستضفنا قوّالين جُدُدا فى القناة وهناك اختلاف كبير بين القدماء والجُدد، فى التلقائية والإيغال فى الشعبية، فالتكلُّف سمة ملحوظة عند بعض الجدد.

 

هل شهد فن الواو أى تطور، أم لايزال يراوح بين يدى ابن عروس؟ وماذا أضفت أنت إلى الواو بشكل واضح؟

 

اكتفت الأجيال القديمة، إلّا قليلا، بالسير على خُطى الأولين، فى الشكل والمضمون، وابتدعوا الأحاجى والألغاز، والسِّـيَـر الملحمية كالهلالية، وبعد تعلّقى بهذا الفن والاطلاع الواسع، والدراسة المستفيضة، والاستماع إلى القوالين كبار السنّ، الذين رحل بعضهم، وكبر آخرون. كان لى حظ تقديم أربعة دواوين أسميتها (واو عبد الستار سليم) باقتراح من الشاعر الراحل محمد كشيك، وقال لى رحمه الله: «حتى لا يختلط إبداعك بالموروث الشعبي».

 

ونشرت كثيرا من الدراسات النقدية فى صحف ومجلات، وجمعتها فى كتابين، الأول دراسة نقدية موسعة عن (فنون الواو ـ الموال ـ الموشح) أصدره اتحاد الكُتَّاب 1999، والثاني: «ماذا تعرف عن فن الواو» فى 2022، إضافة لكتاب جديد بعنوان «تفانين شعرية» صدر مؤخرا. وفى تلك الدراسات طوّعت فن الواو للأغراض المستجدة، واهتديت إلى ما أسميته بالقصيدة الواوية.

 

 

لماذا يتجنب نقّاد الأدب فن الواو الشعبى العريق، الذى اشتبك مع مختلف شئون الحياة؟

 

سؤال يوجه للسادة النقّاد، المنوط بهم متابعة أهم ما يجرى على الساحة الثقافية، وقد ألقيت الضوء طوال نصف قرن على فن الواو. ولم يلتفت إليه أحد من نقادنا الأجلاء، المشهود لهم، وهذا مثير للعجب!!

 

والعجيب أنه تمت دعوتى بصفة شخصية إلى كثير من الدول العربية الشقيقة للحديث عن هذا الفن المصرى الذى أحبّه الناس خارج مصر أيضا، كما أحببناه. والأعجب ألّا تهتم جامعاتنا ولا معاهد الفنون الشعبية، مع أنِّى أتحدث عنه فى كل لقاءاتى، بمختلف وسائل الإعلام والصحف كلما سنحت لى الظروف، وخصصت له يوما أسبوعيا على صفحتى فى فيس بوك، وافتتحت قناة باسمى على يوتيوب، وأبدعت ديوانا من أربعة أجزاء، وأصدرت ما جمعت من تراثه القديم فى كتاب عام 2003 عن سلسلة الدراسات الشعبية بقصور الثقافة، وجمعت أربعة مجلدات صدرت هذا العام عن المجلس الأعلى للثقافة.

 

هذا يعيدنى إلى تجربتك فى الجمع الميدانى. هل اتبعت منهجا ما، وهل كان القوّالون يدلّونك على بعضهم، وكيف تعاملت مع هذا الواقع بالغ الثراء والاتساع، والفن المشتت فى الأنحاء، وكيف كانت أحوال القوالين؟

 

الجمع الميدانى للفنون الشعبية كله مشقات وصعوبة، لأن الحفظة متناثرون فى قرى ونجوع متباعدة، يصعب الوصول إليها، ولا يشعرون بقيمة ما لديهم من التراث، وهم معذورون، فمعظمهم لم يتلق أى تعليم أو تثقيف. وقمت بذلك منفردا، بلا مساعدة من أية جهة، ولم تهتم كليات الآداب به كمجال بحثى، وعرضت التعاون على جهات عديدة، فلم يهتم أحد أبدا.

 

ماذا كان دورك خلال تلك الجولات؟

 

أستمع إلى القوّالين وأكتب عنهم، وأسجل ما يقولونه صوتيا، وبعضهم يسترسل فى كل ما يجئ على باله، ولا يعرف المربع من الموال من المثل الشعبى من القول المأثور، فقمت بفرز تلك النصوص، وتصنيفها.

 

ألم تقدم لك وزارة الثقافة أو أطلس التراث أى دعم، وهل كان دعمهم سيسفر عن حصيلة أكبر وأهم مما جمعته أنت؟ وهل حصيلتك كانت كافية للتعريف بالواو وتوثيقه؟

 

الصعيد الجوانى يعوم فوق بحيّرة لا نهائية من فنون القوالة، وكنوز التراثية، وكنت أتمنى مدّ يدٌ العون إليّ من أية جهة، لنفوز بأضعاف ما جمعته. لكن: «آدى الله وآدى حكمته»!.

 

حزت بكالوريوس موسيقى وتخصصت فى «العود والناي»، فكيف تفسر لنا ارتباط فن الواو بالربابة تحديدا؟

 

منذ صباى الباكر تعلقت بآلة الربابة، فبالرغم من أنها بوترين فقط لكنها تضعك فى حالة طرب عميقة، وبصوت عازفها الأجش تحملنا على جناحين إلى أجواز الفضاء، وبمرور الزمن، وجدت فرقة ربابة كما حلمت تماما، وأصبح للربابة منهج يُدرّس، فقررت دراسته موسيقاها، بعد حصولى على بكالوريوس العلوم فى الرياضيات البحت والتطبيقية، جامعة أسيوط، وكنت ضمن ثانى دفعة تتخرّج فى كلية العلوم، درست موسيقى فى معهد «على الشعالية» (أربع سنوات) فى بنغازى بليبيا، أثناء عملى كمدرس رياضيات هناك، وبعد عودتى إلى مصر خصصت القناة الثامنة، برنامجين لي: «ركن الموسيقي»، و«موشحات» كنت أُعِدّهما وأقدمهما، واستضفت كثيرا من المختصين فى الموسيقي!

 

هل بقاؤك فى نجع حمادى كان سببا فى اهتمامك بفن الواو؟ أقصد لو جئت إلى القاهرة فى شبابك، هل كان سيضيع ما جمعته؟

 

نجع حمادى ثانى أكبر مركز فى قنا، ومكانيا تتوسط الصعيد الجوانى الذى يزخر بحفظة «فن الواو»، وكأن القدر كتب لى دوْر العاشق الولهان بفن الواو، هو وموسيقى الربابة، ومن يومها تعلقت بهما، وطال مشوارى مع فن الواو، كنت قريبا ممن يحفظونه، وأكاد أجزم، بأننى لو لم أكن من الصعيد الجوانى لما علمنا شيئا عن ذلك الفن، فبكل تواضع كنت أول من كشف الغبار عنه، فيما كاد يندثر لعدم اهتمام أحد به، وفى ظل هجمة العولمة، التى تشبه عاصفة هوجاء تجتاح كل تراثى عريق، لنكون بلا جذور.

 

كيف يدرك القارئ العادى الفروق بين الموال الرباعى، والدوبيت، والعدودة، والرباعية، والنميم، والجنزير، والسلسلة، والحاردلّو السودان، وكلها تتنسب لعائلة التربيع، ليفرز فن الواو منها؟

 

فى الفروق بين القوالب الشعرية هذه، نجد التالي: الموال الرباعى أربع شطرات من بحر البسيط، تكتب عمودا فوق بعضها، وموزونة على «مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن»، والشطر كأنه بيت شعرى، وله طريقتان فى التقفية، الأولى توحد قوافى الأربعة أشطر (قد يدخلها جناس تام أو ناقص)، مثل:

 

طرَقْت باب الخِبَا قالت من الطارق

 

فقلت مفتـــونْ لا ناهبْ ولا سارق

 

تبــسّمَت لاح لى من ثَغْـرِها بارق

 

رِجِعت حيْران فى بْحور غارق

 

والنوع الثانى، الشطر الثالث فيه يكون بقافية حرة، مثل موال (من أشعاري) يقول:

 

بخت الخسيس اتْعدَل لـمّا الزمن غـَــلّاه

 

ورَخّص ابن الأصول وِفْــ قِــدْرِتُه غــلّاه

 

فَرَدْت قِلْعِى عشان ارحَل خانَتْـنى الريح

 

ودرَسْت جُـرْنِـى طِلـع تِـبْـنُه بلا غـــًـــلّاه

 

والدوبيت كلمة فارسية من مقطعين «دو ــ بيت»، وتعنى بيتين من الشعر، وتفعيلاته (متَـفاعِلُن مستفعلن فعولن فعِلن)

 

وليس من بحور الخليل، وأدخل عليه النظم بعض الشعراء العباسيين لإعجابهم به، ويكون فصحى غالبا، ومثاله:

 

يا غُصْنَ نَقَـا مُكلّـلاً بالـذهَــــبِ

 

أفـدِيك من الــَّردَى بِــأُمّـى وأبِــي

 

إنْ كُنتُ أسَــاْتُ فى هواكم أدَبِي

 

فالعِـصْـمَـةُ لا تكون إلّا لنبى

 

والعَـدُّودَة فن الرثاء فى شعر اللهجى، وصياغتها غالبا تكون على بحر السريع، ونلاحظ أن الشطرتين الأولى والثانية، تكونان هما الثالثة والرابعة، لكن تتغيير كلمتا القافيتين، مثل:

 

بَـحَـرِى البلَد ساعى معاه ورَقَــة

 

يا واد سلام ولّا خبَر غَــرَبَـــة

 

بحرى البلد ساعى معاهِ جـوَاب

 

يا واد سلام ولّا خبَر غِــيّـاب

 

والرباعية تُصاغ على البحر السريع أيضا (مستفعلن مستفعلن فعِلُن)، وقافية الشطر الثالث تكون حرة، ومثالها إحدى رباعيات صلاح جاهين:

 

لِـيه يا حبيـبْتى ما بيـنّـا دايمًا سَفَــر

 

دا البُعد ذنب كْبير لا يُـغـتَفَر

 

لِــيه يا حبـيـبْـتى ما بيــنّـا دايمًا بُحور

 

أعَـدِّى بحر ألاقى غيرُه اتْـحَــفَــــر

 

والــواو، منه «المقفول» أى تستغلق قوافيه على غير أبناء منطقته، ومثاله مربع تراثى يقول:

 

طبـيب الطـبابا أسالـمان

 

والعـــقل منّى جـنا ين

 

شوف صقع طوبة أسالـمان

 

تلَف تـمْـرَها والجناين

 

ومنه «المفتوح»، مثل مربع ابن عروس الشهير:

 

لا بِـدّ مِـن يوم معلوم

 

تِـتْـرَدّ فيه المظالِم

 

إبيَض على كُلّ مظلـوم

 

اسود على كل ظالِـم

 

ويُصاغ على مجزوء بحر المجتث (مستفعلن فاعلاتن) لكل شطر ومنه المربع.

 

والنميم رائج فى أسوان، بين قبائل الجعافرة والبشارية والعليقات، ويصاغ على خليط من بحر الرجز والكامل (وفق كتاب «فن النميم» للباحث جمال وهبي)، ويشارك فن «الحاردلّو» السودانى فى الوزن الشعرى، وقد يُعرَف أيضا باسم الدوبيت السودانى، لكن لا له علاقة بالدوبيت الفارسى الذى ذكرناه، والمربع منه متفق القوافى، وقد يسمّى «قولة»، ومثاله قولة منسوبة إلى محمد أبو حسن:

 

فصيحة اللسان قُرَشِـيّة ما تَـمْتاما

 

أديبة مؤدبة وللسّـرّ البهــيج كتّاما

 

لله العجب لـمّـان تفكّى لِــــــتاما

 

شمْسـًا فى الصباح والليل تشوِى عتامَـا

 

ومنه أيضا

 

لِــيه من غير سبب محبُـوبِـنَـا يْـعاديــــنَـا

 

بعد ما بنـــيت فى قلــبى للــمحـبّـة مديــنَا

 

فارق لِيهُـو مُـدَدْ وبقيــنَا وحْـديــنَا أدينَا

 

حتى الضيف رحَل شاف وادى غير وادينَـا

 

أمّا الجنزير فيتكون من قصيدة طويلة، وحدتها البنائية مربعات مرتبطة، كل منها يمهد لما يليه، ويشترك فى هذه الخاصية مع فن المسدار.

 

والسلسلة فن نشأ فى العراق، ويشبه الجنزير المصرى

 

والمسدار، فن شعرى شعبى سودانى، ويتكون فى الغالب من مربعات عديدة، مترابطة، ومتعلقة ببعضها فى المعنى، تصف تجربة متكاملة.

 

والمربع الزجلى، يصاغ بكل البحور الشعرية، ونظام التقفية يقوم على تجانس الشطر الرابع فى كل المربعات (وتسمى عمود القصيدة)، وتتفق تقــفية الأشطر الثلاثة الأخرى فى كل مربع. ومثاله قول بيرم التونسى عن «غاندي»:

 

السلام ليك والسلامة

 

من هنا لْيوم القيامة

 

يلّلى أظهرت الكرامة

 

بعد عهد المرسلين

 

>>>

 

لانجليز عايشين فى لذّة

 

عــندهم أسطول وعِــزّة

 

وانت تضربهم بمِعْـزة

 

سودة بنت أربع سنين

 

ـ وعمود القصيدة هنا هو القافية النونية.

 

هل كل شاعر يمكنه كتابة الواو، أم يحتاج لموهبة خاصة، وثقافة محلية؟

 

الموهبة الخاصة حتمية، والثقافة والدراسة لصقل هذه الموهبة، وبالأخص الفنون اللهجية، وكان بيرم التونسى لا يتعرف على الفنون اللهجية بمطالعة كتب، لكن بالتعايش مع الفنون، لذلك كان يجيد اللهجات المحلية للأقطار العربية التى زارها وخالط أهلها.

 

أطلقت جائزة أدبية باسمك، فى شعر الفصحى والعامية والنقد، وخصصت فرعاً للواو، كأنك تقول أنه ندٌّ للأنواع الأشهر، فهل هذا لأهمية الواو، أم لفرط تعبك فى جمع تراثه الجميل؟

 

عبر تجربتى، لم ألمس من الآخرين، المهتمين وغيرهم، معرفة دقيقة بفن الواو، وتعاملوا معه باستخفاف ظاهر للعيان، حتى بعض الشعراء الذين يقولونه، لا يتفهمون سرّ هذا الفن العريق، فله مواصفات خاصة، أهمها صياغته الشعرية، فرغم وضوح معانيه، استمدت جاذبيتها وخلودها من صياغتها الشعرية، فنجد كثيرا من المربعات التى يظنون أنها من «فن الواو»، وهى من عامية فى قالب تربيعى. لذا كان لزاما على الذهاب بالمشوار إلى آخره، بعد تأكدى أننى أولى الناس بهذا الفن.

 

لذا جعلت الجائزة على أربعة أفرع، لإلقاء الضوء على شعراء الواو المتميزين، ولدفع نقّاد جادّين فى هذ الشأن.

قد يعجبك ايضا