سالم الالوسي
مقدمة
الحديث عن الاستاذ عبد المسيح وزير الذي يوصف (رائد الترجمة في العراق الحديث) طويل ومتشعب، ويطول إذا ما تعمقنا في سيرة هذا العالم المتبحر في اللغتين العربية والانكليزية واستجابة لطلب الاستاذ الفاضل الدكتور سلمان الواسطي رئيس قسم الترجمة في بيت الحكمة برسالته المؤرخة في 5/8/1999
في تدوين بعض ما اعرفه عن المرحوم عبد المسيح وزير ولما كان الموضوع المطلوب محدد المضمون سأكتفي هذا القدر من المعلومات متجنبا ما ذكره الاساتذة الافاضل المشاركون في هذا الملف الخاص بالمرحوم عبد المسيح وزير، ومتوخيا الاختصار قدر الامكان فلم اتطرق الى تفاصيل نشأته ودراسته واعماله بعد التخرج من كلية (عينتاب) الامريكية، محررا ومدرسا لمجلة مدرسية، ثم مترجما في المكتب العربي بالقاهرة بعد نشوب الحرب العالمية الاولى (1914- 1918) ثم قدومه الى العراق وتعيينه مترجما في وزارة الدفاع في العراق (شباط 1921) وترقيته مديرا لقسم الترجمة في الوزارة المذكورة (اب 1933).
أمضي عبد المسيح وزير أكثر من اثنتين وعشرين سنة في هذه الدائرة قام خلالها بوضع الاف المصطلحات العسكرية باللغة العربية وترجم العشرات من الكتب والمقالات والبحوث والتقارير من الانكليزية الى العربية، كما ألف عددا من الكتب كان أبرزها (القاموس العسكري) باللغتين العربية والانكليزية الذي أصبح مرجعا في بابه.
عند تأسيس الحكم الوطني في العراق نهض عدد من العلماء والمثقفين بتأليف الكتب واهتموا بالتعريب منهم المؤرخ رزوق عيسى والعلامة الدكتور امين المعلوف (1871- 1943) الذي جاء مع الملك فيصل الاول وأصبح مديرا للأمور الطبية في الجيش العراقي، ويعد المعلوف اول من عني بالمصطلحات العلمية والفنية بالعراق بعد الاحتلال البريطاني للعراق وهو الذي ادخل في وزارة الدفاع المصطلحات العربية العسكرية وأحيا الفاظا كثيرة. وكان عبد المسيح وزير أبرز من واصل العمل في هذا الميدان العلمي بعد مغادرة المعلوف العراق.
عبد المسيح وزير بنظر العلماء والمفكرين:
درج عدد كبير من العلماء والمثقفين وارباب القلم على وصف الاستاذ وزير بـ(شيخ المترجمين) فقد كان في طليعة المترجمين الذين رافقوا فجر النهضة العراقية في مطلع العشرينات حتى مطلع الاربعينات، وقد تضافرت جهود أولئك النوابغ على احياء امجاد بغداد وتراثها العلمي والثقافي بعد ألف ونيف من الاعوام، عهود ابن المقفع ويوحنا بن ماسوية وحنين بن اسحق وغيرهم من مترجمي عصر الرشيد والمأمون. وكان من بواكير اعمال الاستاذ عبد المسيح وزير قيامه بترجمة كتاب مذكرات القائد البريطاني الجنرال (طاونزند) الذي استسلم مع جيشه في معركة الكوت، وقد طبع الكتاب عام 1923 من قبل المكتبة العصرية لصاحبها السيد محمود حلمي. وبعدها عكف على وضع المصطلحات العسكرية باللغتين العربية والانكليزية وصدرت بهيئة كراسات بعنوان (القاموس العسكري) وقال الفريق الركن طه الهاشمي: “ومما زاد اهمية هذا السفر – ويقصد مذكرات طاونزند – ذكر المصطلحات العسكرية فيتقن القارئ بكل سهولة جميع المصطلحات العسكرية المرعية في الجيوش الاوروبية ويقف على معناها الصحيح” ويختتم الهاشمي كلمته بالرجاء من “ضباط الجيش العراقي ان يقرأوا هذا الكتاب الجليل…”. ويستطرد قائلا: “إذا التمسنا من ضباط الجيوش العربية في الممالك الاخرى بان يقتنوه ويحرصوا عليه، قد دعوناهم الى تثبيت المصطلحات العسكرية والوقوف على أصل التعبئة في الارض المكشوفة..”.
اما المعجم العسكري، وكان قد شرع في طبعه بمطبعة الحكومة ببغداد، ثم فقدت مسوداته، ويعد هذا المعجم اساسا لما اتخذته وزارة الدفاع العراقية من مصطلحات عسكرية.
يقول العلامة مصطفى الشهابي رئيس مجمع اللغة العربية بدمشق وهو يتحدث عن المصطلحات العربية في الفنون الحربية “داوم العراقيون على هذا العمل وكان واسطة عقدهم فيه الاديب السيد عبد المسيح وزير حتى صار عندهم معجم تلك المصطلحات يشتمل على بضعة الاف لفظة وهكذا سهل تعليم الجيش العراقي بالعربية سواء في المدارس العسكرية المختلفة ام في الثكنات”.
يقول الاستاذ رفائيل بطي: “…. وقد غنمت الثقافة العسكرية العربية من مساعيه وكفايته وعلمها وانكبابه اناء الليل وأطراف النهار على التنقيب والتحقيق والبحث في المعاجم ودواوين اللغة والاسفار العربية والانكليزية هذا (المعجم العسكري) البكر في اللغتين”.
اسلوبه في الترجمة:
كان حب عبد المسيح وزير للعربية – لغة الضاد – ومفرداتها الفصحى بملك عليه تفكيره ويسيطر على مشاعره”.
فقد كان يعشقها حقا ويغار عليها من الدخيل ويحرص على نقائها وسلامتها، وكان يجهد نفسه في مراجعة الكثير من المعاجم العربية وغيرها يلتمس فيها الاسم العربي الفصيح والعبارة ذات الدلالة الواضحة والجرس الجميل الذي تستسيغه الاسماع ويقبله الذوق، ولم تكن حماسته للعربية بدافع محبته للفصحى حسب، وانما كانت تنبعث من ايمانه برسالة قومية سامية، لاسيما وان اغلب رحلات الدولة من الساسة والتربويين والمفكرين وارباب القلم في العشرينات والثلاثينات من هذا القرن، كانوا يسعون ليل نهار لتوطيد اركان الدولة العراقية الحديثة ونهضتها العلمية والثقافية، من اجل ان تكون المثال الذي يحتذى من قبل الدولة الاخرى في المنطقة خاصة والشرق عامة.
يقول رفائيل بطي عن طريقته في الترجمة: “ان عبد المسيح وزير يؤكد على ان يكون الادب ارستقراطيا يصون فنونه عن اسفاف والابتذال لذا امتازت ترجماته بدقة في النقل ومتابعة في الاصل بما يقرب من الترجمة الحرفية مع مراعاة الفروق في التعابير بين اللغتين، وعناية فائقة بالمفردات وافراغ العبارة في ديباجة مشرقة وتركيب محكم.
قابلياته في الترجمة الفورية (مع الشاعر طاغور):
في الربع الاول من عام 1931 قدم الشاعر الهندي الكبير (رابندرانات طاغور) بغداد عن طريق الحدود العراقية الايرانية بواسطة القطار من خانقين، وقد قررت الحكومة العراقية بتوجيه من الملك فيصل الاول ان يستقبله وفد رفيع المستوى من الادباء ورجال التربية والصحفيين والمترجمين فاختير الشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي، والدكتور محمد فاضل الجمالي والعلامة محمد بهجة الاثري والاستاذ عبد المسيح وزير المترجم بوزارة الدفاع العراقية، ورافق الوفد المصور ارشاك. وخلال الاستقبال كان الحديث يدور بالإنكليزية، وكان يتناوب على الترجمة كل من الدكتور الجمالي والاستاذ وزير وقد تولى الدكتور الجمالي ما له صلة بالتربية والتعليم والامور السياسية، بينما اضطلع وزير بما له علاقة بالأدب والشعر والتاريخ.
وتقديرا لهذا الشاعر الكبير واحتفاء بمقدمه اقيم احتفال كبير ألقيت فيه الكلمات والقصائد وقد القى الزهاوي قصيدة مطلعها:
كنت طاغور ماثلا في حيالي حيثما التفت اجدك حيالي
من يميني إذا نظرت يميني وشمالي إذا نظرت شمالي
اما العلامة الاثري فحياه بقصيدة طويلة استوحاها من معاناة الشعب العراقي والامة العربية على إثر عقد المعاهدة العراقية – الانكليزية عام 1930 ومن مغزى حديث طاغور عن المسالة والموادعة، قال فيها:
بسمت لبغداد وبغداد ثاكلة فلم تر ألا أن تهش مجاملة
وبغداد ثغر صاغه الله باسما لكل اديب حط فيها رواحله
يقول الاثري: ان عبد المسيح وزير كان يتولى الترجمة الفورية خلال القاء الكلمات والقصائد قبل ان تدون وتقدم الى طاغور وقد اثار اعجاب الحاضرين على هذه القابليات الفذة في ترجمة القصائد، والشعر كما هو معلوم عصي على الترجمة في اكثر الاحيان.
كان الاستاذ وزير ملجا لكل قاصد حاجة، ومحجة لكل طالب علم يستشيرونه في مشكلاتهم ومطالبهم اللغوية، من ذلك ما نقل على المرحوم العلامة محمد رضا الشبيبي عندما استعصى على لجنة وضع المصطلحات بوزارة المعارف امر الوقوف على ما يقابل الكلمة العامية (الصجم) بالجيم المثلثة، وهي الكرات الفولاذية الصغيرة التي تحشى بها اطلاقات بنادق الصيد فهاتف عبد المسيح الذي اجابه على الفور (سيدنا الكلمة الفصحى المقابلة هي الخردق ومفردها الخردقة!!).
فسأله احد مدرسي الرياضيات عن الكلمة المقابلة للكلمة الافرنجية داكتيلونومي (Dactylonomie) فأجابه هي حساب الجمل المستعملة في الفلك والرياضيات والتاريخ الشعري.
يقول الاديب الاستاذ مير بصري: (عرفت عبد المسيح وزير وانا في مطلع الشباب وأفدت منه فوائد جمة وكنت اطلعه على ترجمة لي عن الانكليزية فنبهني الى امور تتعلق بصميم نقل اعلام ومعاني الجمل الخاصة بكل لغة ومن ذلك إني كتبت اسم حاكم فلسطين الروماني في عهد السيد المسيح (ع) بونطيوس بيلاطوس (Pontius Pilatus) كما جاء في اللغة الانكليزية فقال لي: ان اسمه في العربية بيلاطس البنطي نسبة الى (بنط) بالضم او (بنط) وهو الجسر.
حدثنا اللواء الركن المتقاعد الاستاذ الدكتور شكري محمود نديم صباح يوم 27/ 8/1999 عن ذكرياته مع الاستاذ عبد المسيح وزير وكان عمل معه في شعبة الترجمة في وزارة الدفاع العراقية ردحا من الزمن. قائلا”كان رحمة الله يجادلنا ساعات وايام عن المفردة الانكليزية وما يقابل معانيها بالعربية اوالكلمة ومعانيها باللغة الانكليزية وكنا نقترح عليه بعض المفردات العربية ولكنه سرعان ما كان يستبدلها بالصحيح.
من آثار عبد المسيح وزير
لم تقتصر آثار عبد المسيح وزير على ترجمة الكتب والبحوث ووضع المصطلحات والمقالات من الانكليزية الى العربية بل اتسع نطاق نشاطه العلمي والادبي الى وضع عدد من المؤلفات بين كتاب ومقالة وبحث علمي. ففي مجال الترجمة عكف على ترجمة كتب العلم والتاريخ والادب وكان له من ادواته الكاملة في هذه الفروع من المعرفة ومن تضلعه باللغتين العربية والانكليزية ما ساعده على ان يتبوأ الذروة في الدقة والامانة والابداع في كل ما ترجم او ألف.
كان من مؤسسي نادي القلم العراقي الذي تأسس عام 1934 وقد طلب منه ان يلقي محاضرة عن الترجمة واصولها وشروطها فألقى المحاضرة بعنوان “صناعة الترجمة” نشرت ضمن مجموعة نادي القلم.
(المجموعة الاولى الصادرة عام 1938) ولأهميتها اعادت نشرها مجلة المقتطف المصرية.
وقد توالت اعمال عبد المسيح وزير في مختلف الميادين العسكرية والعلمية والادبية.
أ- في المجالات العسكرية:
1- تعليم القطعة (Squad drill) ترجمة نشرها بتوقيع (ع.و. – بغداد – 1339 هـ).
2- محاربتي في العراق – او خواطر – طونزاند – بغداد – 1923.
3- كتاب الثورة العربية – تأليف : ت.ا. لورنس وقد طبعت منه كراستان ثم صرف النظر عنه.
4- كل شيء هادئ في الجبهة الغربية (رواية) ذكرها الكاتب الصحفي عبد القادر البراك في احدى المجلات.
5- ترجم عدد من الدراسات والابحاث العسكرية في المجلة العسكرية العراقية منذ صدورها عام 1924 حتى وفاته عام 1943 وهي كثيرة نقتصر منها على ما ترجمه عن كتاب (الاستطلاع ووضع التقارير) للضابط الانكليزي الزعيم (اي العميد) السر لونزدايل هايل اخترنا منه افصل الخامس من الترجمة المنشورة في المجلة المذكورة في سنتها الخامسة العدد الاول الصادر (1928).
ب- في مجالات العلوم والتقنيات:
ترجم العشرات من البحوث والدراسات العلمية نشرها في الصحف والمجلات المحلية وفي مقدمتها مجلة (الحرية) لصاحبها رفائيل بطي تحت عنوان (بسائط العلوم) تناول علوم الكهرباء والذرة وغيرها.
ج- في المجالات الادبية والتاريخية:
1- عبد الرحمن الناصر (ترجمة) وهو فصل خاص من كتاب (مجد الاندلس العربية) لـ (جوزيف ميكيب) بغداد – 1939.
2- شريعة حمورابيي (ترجمة) (ذكرها مير بصري).
3- الزورق الذهبي – لطاغور (ترجمة).
4- ريفيات فرجيل شاعر اللاتين – (ترجمة) (ذكرها مير بصري) .
5- رواية القيصرة في مقصورتها – لوليم ليكيو (ترجمة) نشرها في جريدة العراق 1923.
6- الى سيليا للشاعر الانكليزي (بن جونسون) – مجلة الحرية (1924).
7- صافو (Sappho) وشعرها (ترجمة) مجلة الحرية – ج4 – السنة الثانية 1925 – 0ص214 – 2244).
8- 9- قصتي (الصنم المحطم) و(عجوز تتصابى) – بغداد 1972.
9- نوادر المطرنين – وقد نشر بتوقيع (مطرن يشار اليه بالبنان) – بغداد 1939.
لقد تنوعت اهتمامات الاستاذ عبد المسيح وزير فانعكس ذلك على اثاره المترجمة والمؤلفة، وان حظيت الشؤون العسكرية بالأولوية بحكم عمله بوزارة الدفاع العراقية ومسؤوليته عن ادارة شعبة الترجمة فيها، والقارئ يأخذه العجب والاعجاب بهذا الرائد الفذ عندما يقع نظره على مؤلفاته ومترجماته او يقرا بعضها وبصورة خاصة الادبية والتاريخية والعلمية، واسلوبه الرائع حتى يكاد ينزله منزلة الطبقة الاولى من ادباء العصر وهو حقيق بذلك.
رحم الله رائد الترجمة الاستاذ عبد المسيح وزير على ما قدمه من جهود واعمال مثمرة في بناء نهضة العراق الحديث.