صباح عبدالصبور
في ظل التصعيد القائم بين الصين وبين الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، تبرز أدوات كل طرف في محاولة اختراق الآخر عبر توظيف العديد من الأدوات؛ إذ تُواجه الصينَ اتهاماتٌ تتعلق بمحاولات تدخُّلها في الشأن السياسي الغربي؛ من أجل تشكيل بيئة سياسية تراعي المصالح الصينية. وفي ضوء هذا، نشر موقع “إيكونوميست” تقريراً بعنوان “التدخُّل السياسي الصيني يُثير قلق الغرب”؛ إذ يدَّعي التقرير وجود أنشطة تجسسية للصين عبر وكلائها في بريطانيا والولايات المتحدة وكندا وأستراليا، وإشراف الحزب الشيوعي الصيني على تجنيد العملاء في الخارج بدفع الأموال للسياسيين الغربيين. ويمكن استعراض أبرز ما جاء فيه على النحو الآتي:
أنشطة بكين
تناول التقرير أبرز أنشطة التدخُّل والتجسُّس الصينية المزعومة في الدول الغربية؛ وذلك على النحو الآتي:
1- أنشطة تجسُّسية صينية في بريطانيا: حسب التقرير، كان لدى المحامية البريطانية المولودة في هونج كونج “كريستين لي” علاقات وطيدة بأعضاء النخبة البريطانية؛ إذ قامت “لي” بزيارة البرلمان البريطاني بوتيرة متكرر؛ حيث دعم المشرعون عملها لمساعدة الصينيين على الانخراط بقدر أكبر في السياسة، حتى إنها حصلت على جائزة لجهودها من تيريزا ماي التي كانت آنذاك رئيسة للوزراء، وتم تصوير “ماي” و”لي” في داونينج ستريت في عام 2019. ووفقاً للتقرير، أُلغيت هذه الجائزة في يناير؛ لأنه وفقاً لـ”MI5″ وكالة الاستخبارات الأمنية المعنية بالأمن القومي في المملكة المتحدة، كانت “لي” تعمل سرّاً لصالح الصين. وفي إشعار أمني صدر إلى البرلمانيين في ذلك الشهر، حذَّرتهم الوكالة من أنشطة “لي”.
2- محاولات بكين تشكيل البيئة السياسية الأمريكية: وفقاً للتقرير، ليست بريطانيا الدولة الغربية الوحيدة التي تشعر بالتدخُّل الصيني؛ إذ يُحذِّر المسؤولون الأمريكيون أيضاً من المحاولات السرية التي تقوم بها الصين للتأثير على السياسيين المحليين؛ فقد تصاعدت الأصوات المُحذِّرة خلال رئاسة دونالد ترامب؛ حيث أشار ويليام إيفانينا مدير المركز الوطني لمكافحة التجسُّس والأمن في ذلك الحين، إلى أن “الصين تُوسِّع جهودها لتشكيل البيئة السياسية في الولايات المتحدة، والضغط على الشخصيات السياسية التي تعتبرها مُعارِضةً لمصالح الصين والتي تنتقد سياساتها”.
3- حديث عن استهداف الصين الانتخابات الكندية: في تقرير صدر العام الماضي، قال جهاز الاستخبارات الأمنية الكندي (CSIS) إنه لاحظ “تهديداً مستمرّاً ومتطوراً ترعاه دول يستهدف الانتخابات لسنوات عديدة حتى الآن” مع “زيادة في تواترها وتعقيدها”. ولم يذكر اسم البلدان المعنية، لكن في وقت سابق من العام، قال ديفيد فيجنولت مدير جهاز الاستخبارات الكندية، إن وكالته كانت مهتمة للغاية بأفعال “دول مثل روسيا والصين”. وفي يناير، قالت صحيفة “جلوب أند ميل”، إن جواسيس كندا كانوا يُطلعون برلمانيين مختارين على عمليات التأثير التي تقوم بها الصين ودول أخرى.
4- تجسُّس صيني مزعوم يُثير القلق في أستراليا: أكد مايك بيرجس رئيس منظمة الاستخبارات الأمنية الأسترالية (Asio)، في تصريح له في فبراير؛ أن التجسُّس والتدخُّل الأجنبي حل محل الإرهاب، باعتباره مصدر القلق الأمني الرئيسي في أستراليا. وقال إن وكالته أحبطت مؤخراً محاولة شخص يُلقَّب بـ”محرك الدمى”، يعمل نيابةً عن حكومة أجنبية، للتدخُّل في الانتخابات الأسترالية؛ وذلك باستخدام حساب خارجي. وقد خطَّط “مُحرِّك الدمى” لدعم المرشحين الذين إما يدعمون مصالح الحكومة الأجنبية، أو الذين تم اعتبارهم عرضة للإغراءات. ولم يحدد رئيس الاستخبارات الحكومة الأجنبية، فيما قالت إحدى عضوات مجلس الشيوخ الأسترالي (تُوفِّيَت الشهر الماضي بنوبة قلبية مُشتبَه بها) إنها “أُبلغت على نحو موثوق” بهوية الشخص؛ حيث سمَّت رجل أعمال أستراليّاً بارزاً من أصل صيني، وقد نفى هذا الشخص هذه المزاعم، لكن الدولة المُشَار إليها كانت الصين.
(Read more) علم الابستمولوجيا والنظرية السياسية المعاصرة
أدوات التدخل
ادَّعى التقرير وجود آليات وصور مختلفة للتدخُّل الصيني في السياسة الغربية؛ وذلك على النحو الآتي:
1- تورُّط أحد أفرع الحزب الشيوعي في تجنيد العملاء بالخارج: يرى التقرير أن العامل المشترك في مزاعم التجسُّس الصيني، هو فرع من الحزب الشيوعي الصيني يُسمَّى إدارة عمل الجبهة المتحدة The United Front Work Department (UFWD)؛ إذ تذكر وكالة الاستخبارات البريطانية MI5 بشأن “لي” أن هذه الإدارة “تحدد الأفراد وتغرسهم” بهدف الترويج لأجندة الحزب، و”لتحدي من لا يلتزمون بسياساته”. كما أن اتصالات “لي” بإدارة عمل الجبهة المتحدة (UFWD) لم تكن سرية، وقد اعترفت بعملها “مستشارةً قانونيةً” لمكتب الشؤون الخارجية للصين The Overseas Chinese Affairs Office، وهو قسم من أقسام تلك الإدارة. كما عملت “لي” مديرةً لجمعية الصداقة الصينية العالمية، وهي هيئة خاضعة لسيطرة “الجبهة المتحدة”.
2- تقديم الأموال للمعارضين السياسيين في الغرب: حسب التقرير، كان معروفاً أن “لي” كانت تُقدِّم أموالاً إلى أحد السياسيين المُعارِضين البارزين في بريطانيا، وهو باري جاردينر من حزب العمال؛ حيث قدَّمت ما مجموعه أكثر من 500 ألف جنيه إسترليني (650 ألف دولار) على مدى عدة سنوات، فيما يقول جاردينر إن هذا التمويل انتهى في عام 2020، وإن “لي” لم يكن لها دور في تعيين أعضاء فريقه أو إدارتهم، وإنه لم يربح شخصيّاً منها، وإن نجل “لي” الذي كان يعمل معه استقال بعد إصدار وكالة MI5 تحذيرها. ويعتقد التقرير أن وكالة MI5 تبدو أكثر ثقةً بأن “لي” حصلت على أموال من الصين لتوزيعها على مجموعة واسعة من المستفيدين، بدايةً من الأحزاب السياسية والمشرعين وصولاً إلى السياسيين الطموحين.
ويشير التقرير إلى أن هناك القليل من الأدلة المعلنة التي تُظهر أن الصين قد استفادت كثيراً من عمليات التأثير في الخارج، إلا حالة واحدة فقط حتى الآن تم الإبلاغ عنها لسياسي غربي كبير تلقَّى أموالاً من مصدر مرتبط بالحملة الصينية، ثم انحاز إلى الصين بطريقة تتعارض بوضوح مع الرأي السائد، وهو سام داستياري المشرِّع المعارض في أستراليا، الذي حث في عام 2017 حكومته على “احترام” مطالب الصين الإقليمية في بحر الصين الجنوبي.
3- ترهيب مُعارِضي سياسات بكين في الخارج: ادَّعى التقرير أن وكلاء الصين في الخارج يعملون على ترهيب الخصوم السياسيين، مثل المنفيين من شينجيانج والمعارضين الآخرين. وهناك قضية حديثة تتعلق بـ”يان شيونج” الذي كان زعيماً طلابيّاً أثناء احتجاجات ميدان تيانانمين عام 1989، والذي أصبح مواطناً أمريكيّاً وعمل قسيساً في الجيش الأمريكي. ويتقدَّم “شيونج” الآن بعرض للحصول على إمكانية أن يكون مرشحاً ديمقراطيّاً للكونجرس في نيويورك. ومن المقرر إجراء الانتخابات التمهيدية في يونيو. ووفقاً لخبرته السابقة في قضية تيانانمين، فإن الصين لا ترغب بالتأكيد في ترشيحه من قبل الحزب الديمقراطي.
وفي مارس، زعم مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) أن أحد عملاء جهاز التجسُّس الصيني، قد طلب من محقق خاص في أمريكا محاولة إحباط حملة “شيونج”، من خلال تشويه مصداقيته، مثل ادعاء وجود انتهاك ضريبي أو غيره. ونقل مكتب التحقيقات الفيدرالي عن الجاسوس قوله في رسالة صوتية، إنه في حالة عدم حدوث ذلك فإن “العنف سيكون خياراً جيداً أيضاً”، بما في ذلك “حادث سيارة”. وعلى الرغم من أن مكتب التحقيقات الفيدرالي لم يذكر اسم “شيونج”، فإن المُرشَّح أكد أنه كان الهدف.
4- إنشاء روابط مع النخب لتعزيز النفوذ الصيني بالخارج: تُشير المصادر إلى أن الجبهة المتحدة (UFWD) تريد غالباً من السياسيين مساعدة الصين من خلال التزام الصمت فقط، وتجنُّب انتقاد السياسة الصينية، والامتناع عن دعم الإجراءات مثل العقوبات. ويشير التقرير إلى أن الجبهة المتحدة ليست وكالة تجسُّس، لكن أهدافها تكون أحياناً ذات أهمية لأجهزة التجسُّس الصينية أيضاً؛ فهي تُسهل عملها؛ إذ يتم توجيه الكثير من أنشطة الإدارة إلى الأشخاص داخل الصين، مثل المواطنين المؤثِّرين ورجال الأعمال والأكاديميين والقادة الدينيين والأقليات العرقية وبعض الأشخاص من هونج كونج وتايوان.
أما في الخارج، فيركز عمل الجبهة في الأساس على كسب دعم العرق الصيني، من خلال إنشاء روابط بين الحزب والنخب الغربية، بما في ذلك السياسيون؛ إذ يعتقد الرئيس الصيني “شي جين بينج” أن النفوذ السياسي الخارجي من أساسيات الحزب الشيوعي. وفي عام 2015، أنشأ الرئيس الصيني “مجموعة صغيرة رائدة” للإشراف على ذلك النشاط؛ ما جعل مثل هذه العمليات أقرب إلى قلب عملية صنع القرار في الحزب.
5- توظيف الصينيين في الغرب للعمل لصالح بكين: سلَّطت وسائل الإعلام الصينية الضوء على عمل “لي” قائدةً للمشروع الصيني البريطاني. وكان الهدف من هذا المشروع هو تشجيع العرقية الصينية على لعب دور أكبر في السياسة البريطانية، كما اصطحبت “لي” مرشحين من أصل صيني في رحلات إلى الصين؛ حيث كان أعضاء فريق الجبهة المتحدة يتحدَّثون إليهم عن مزايا النظام السياسي في الصين.
ختاماً، يشير التقرير إلى أنه لا دليل على نجاح مثل هذه التكتيكات، لكن يمكن القول إن سمعة الصين في الغرب تراجعت لأسباب عدة؛ منها “فظائع” الصين في شينجيانج، وسلب الحريات في هونج كونج، ومؤخراً دعم الرئيس الصيني ضمنيّاً لروسيا في “غزو” أوكرانيا. ويأتي هذا – في السنوات الأخيرة – بعد تراجع الاستثمار الصيني في البنية التحتية الحيوية للغرب بسبب المخاوف الأمنية.
المصدر:
– Chinese political interference has Western spooks worried, The Economist, April 21, 2022, Accessible on:https://www.economist.com/china/2022/04/21/chinese-political-interference-has-western-spooks-worried
نقلا عن موقع الموسوعة الجزائرية للدراسات السياسية والأستراتيجية
إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية