منارات عراقية … حافظ جميل وخمرياته العتيدة

متابعة التآخي

ولد حافظ جميل ببغداد عام 1908من أسرة عريقة محافظة، فنشأ في بيئة محافظة متزمتة شديدة التزمت. درس اللغة العربية ونحوها وبلاغتها وصرفها والادب العربي على يد الاستاذ منير القاضي.

قرض الشعر صبيا حيث أصدر مجموعته الشعرية الاولى وهو لايزال على مقاعد الدراسة الثانوية، وقد اسماها (الجميليات)

سافر عندما بلغ السنة السابعة عشر من عمره الى لبنان وسكن في بيروت. حيث درس في الجامعة الامريكية وأنصرف الى دراسة العلوم فتفتحت لديه آفاق عديدة وعوالم جديدة لم يألفها في بغداد ولم يشهد مثيلها في بيئته المحافظة فمما شاهده وانبهر به شارك الفتيات الدراسة الجامعية

وفي الاندية والمجتمعات ورأى معالم الحضارة بحلاوتها ومرارتها

كما شاهد كؤوس الخمر تدار وحلقات الرقص تنتظم فأنطلق من روح الشباب المحروم الى افاق اوسع فنظم أجمل القصائد في المرأة. عندما كان طالبا في الجامعة الامريكية في لبنان ومنها قصائد (يا تين يا رمان يا عنب) و(بائعة الورد) وغيرهما من القصائد الغزلية حيث يقول:

يا تين يا توت يا رمان يا عنب يا خير   ما أجنت الأغصان والكث

ويناجى الكاس والراح ويرى في الخمرة العلاج الشافي ودواء لكل كلوم النفس واوجاعها الخفية فينشد قائلا:

الامل كان أعظمني شقاء   وأكثرني بلا سكر عناء

وأنزلني على أحكام دهر   قضى أن لا أرد له قضاء

عاد حافظ جميل الى بغداد بعد أن أنهى دراسته في بيروت والتحق بسلك التدريس، لكن حياته بقيت تتجاذبها عوامل متباينة ومتناقضة، بقى متقيدا بالأصل العربي الاصيل في مبانيه ومعانيه جامعا بين القديم والحداثة من شعراء العرب الاقدمين وشعراء النهضة العربية الحديثة. حافظ جميل درس الادب الإنكليزي وفنونه الا أنه لم يتأثر شعره به وبصورة الشعرية لذا بقي شعره بعيدا عن التطور والثقافة الغربية حيث لم يحاول أن يصنع أساليبه بما تقتضيه حالة التغير. وبقي ينسج حلته الشعرية بمنوال الشعر العربي واساليبه الشعرية القديمة والحديثة وينسج القصيدة وفق المفهوم العربي الخالص.

 

 

 

 

الشاعر حافظ جميل سريع البديهية طويل النفس كثير تصحيح شعره والرجوع اليه لينقد القصيدة التي ينظمها نقدا قاسيا ويزن كلماتها وأبياتها وفق الميزان الشعري كما يوزن الذهب الخالص في ميزانه وكما كان يفعل زهير بن أبى سلمى في حولياته ومروان بن أبى حفص في مديحه، وكما كان يفعل الشاعر الاديب الفرنسي غوستاف فلوبير صاحب التربية العاطفية، وقد تأثر حافظ جميل بشعر أبى نؤاس وأبن الرومى والمتنبي.

اشتهر حافظ جميل بغزلياته وخمرياته التى يعبر فيها عن قلب فتى شبابي لا يؤمن بالهرم وشعور لا يعرف الشيخوخة، وعاطفة مرهفة جياشة تحكي حكايا الشباب في ساعة هرمها وكهولتها وعاش سن الكهولة بالآمال وليترقب (ليالي لبنان) ويحن الى الكأس وهو يقول:

حبب بما يحلو لديك وسلمى   بالعين ان أحببت او بالمبسم

حسب الحبيبة لحظها أن سلمت   وشفاها ان أومأت لمسلم

ويكتب عن الشوق الى الحبيبة قائلا:

ماذا أراد على اكتئاب   ان كان ما بي فوق ما بك؟

ويسخط لجفاء الحبيبة ان هجرته او صدت عنه فيخاطبها قائلا:

ودعت عهدك وانتهيت   وخرجت منه بما اكتفيت

ويناجي الكاس والراح ويرى في الخمرة العلاج الشافي ودواء لكل كلوم النفس فينشد قائلا:

الأمل كان أعظمني شقاء   وأكثرني بلا سكر عناء

وأنزلني على أحكام دهر   قضى أن لا أرد له قضاء

وشعر حافظ جميل بعد ذلك في لبنان وفي بغداد سائر على الألسنة، محبب الى القلوب فبغداد ولدته وذكريات الطفولة الجميلة ونشأته وصباه، فلا غرابة أن يخاطبها ويتغزل بجمال عشيقة طفولته وصباه فيخاطبها قائلا:

لغيرك يا بغداد لم يهف جانحي   ولا شاقني في ظلك أن أشدو

ولا طاب لي في غير دجلة مرتع   ولا لذ لي في غير شاطئها ند

حافظ جميل لا يعترف بالهرم ولا يودع الحب والشباب وهو في سن الستين سن الشيخوخة له الكثير من القصائد في الحب والشاعر أصبح مراهقا بعد سن الستين حيث قال:

مالي أهيم ولات حين هيام   أيكون في الستين بدء غرامي

أما لبنان فهو المرتع الروحي له لا يفتأ يشيد بمحاسنه ومحامده فكان كهف مشيبه وهو يقول:

در الدمع الملح يزيد وكفا   فمالك غير لبنان وتشفي...

أظلت في الشباب فكان وكنا   وحطك في المشيب فكان كهفا

ومن لك في النوازل ان ألمت   بأرعى دمه منه وأوفي

للشاعر حافظ جميل عدة دواوين منها؛

نبض الوجدان، اللهب المقفي، الجميليات.. وفيها شعر الصبا والشباب

وهذه بعض ابيات من قصيدته (صرخة الشريد):

أشكوى ما رفعت أم احتجاجا   وحد السيف خيرهما علاجا

تحلم قبلك المطبوع جهلا   فزاد جهالة الباغي لجاجا

وهل ترك التلملم منك آخذي   وأكثر منك للشر احتياجا

كفي باللين في معوج طبع   يظل يزيده اللين اعوجاجا

وهل يتألم الشرير طبعا   وهل تتبدل الافعى مزجا

ويقول في قصيدة أخرى:

من زيف الناس أخلاقا وأيمانا   وصبر الراهب الزميت شيطانا

حلاوة المال لم تترك لدي ورع   دينا ولا لرقيق القلب وجدانا

ويقول أيضا:

هات صهباءك يا خمار هات   أأخاف الموت حبا …الحياة

ولمن أحيا وعمري أن يطل   فهو بالساعات لا بالسنوات

ولمن أصحو لعمر الذي   أحتمي سكرا به من سكراتي

حبذا اليوم الذي اقطعه   بين خمر وقان ………وسقاة

تقدم العمر بالشاعر حافظ جميل بعد ان احيل على التقاعد وعاش في شيخوخة هادئة هانئة الى أن وفاه الاجل في يوم الجمعة الرابع من أيار سنة/1984 في بغداد بعد ان ناهز الثمانين عاما.

 

قد يعجبك ايضا