المسرحي المؤسس قاسم محمد إنسانا وفنانا مبدعا

 

متابعة التآخي

تجارب عديدة كان قد خاضها الفنان قاسم محمد في التمثيل والاعداد والتأليف والترجمة والاخراج لتحيل حلمه الى خطوات عملية يتسارع كل يوم لإنجازها يقوده في ذلك دافع نبيل هو ان يضيف لحركة المسرح العراقي والعربي رافدا جديدا يجيب عن كثير من التساؤلات ويحيل بعضا من أحلامه الى واقع ملموس مجسد نعثر عليه في كل نجاح يحققه ضمن المهرجانات المسرحية.

لا اريد هنا ان اكتب عن انجاز المبدع المسرحي الكبير قاسم محمد لان الكل يعرف انجازه الابداعي، لكنني اكتب عن شيء عشته معه حين كان استاذي في معهد الفنون الجميلة وحين اكملت دراستي في اكاديمية الفنون الجميلة قادني من يدي وقال لي مكانك في الفرقة القومية للتمثيل.

 

 

 

جئت الى بغداد عام 1975 قادما من قضاء الصويرة وكان كل همي ان ارى قاسم محمد لكثرة ما قالوا عنه وما كتبوا وإذا به رئيس للجنة الاختبار في المعهد حينها قدمت مشهدا من مسرحية (جسر اَرتا) ولقد كنت قلقا حين شاهدت القاسم بن محمد قد بدأ بكتابة شيء ما وحين انتهيت من اداء المشهد قال لي (هل تعرف ماهي فكرة المسرحية؟) تحدثت عن فكرة المسرحية ثم قال (الان مثلما تحدثت عن فكرة المسرحية عليك ان تكون مؤمنا بها وعليك الان ان تعيد المشهد مرة اخرى) انتهيت من اداء المشهد وقال لي مبروك –حينها حلّقت بعيدا اذ تحقق حلمي ليس بنجاحي وانما سأكون أحد طلبة هذا المبدع الكبير.

بدأت رحلتي الاولى مع ابي زيدون القاسم بن محمد (علينا ان نغادر قاعة المحاضرات ونذهب الى عالمنا هو المسرح) هكذا قال لنا ثم ذهبنا سوية الى قاعة المسرح ولقد افتتح غرفة الانارة وبدأ يحدثنا عن كيفية استخدام الاجهزة لإضاءة المسرح وكيفية اختيار المكان المناسب من البقعة الضوئية كي يشاهدنا المشاهد بوضوح ثم رفع يده حاملا ديوان شعر لعبد الرزاق عبد الواحد (الخيمة الثانية) وبدأ الحديث عن كيفية اعداد القصائد الدرامية الى مسرحية وبعد شهر من التمارين المكثفة انجزنا عملا مسرحيا مثيرا هو قضية الشهيد الرقم 1000.

اما الرحلة الثانية كانت مسرحية للأطفال (طير السعد) – ولقد كان قد اخرجها سابقا للفرقة القومية للتمثيل – وقال (دعونا ان نغادر خشبة المسرح ونذهب للحياة الى سوق الشورجة. السوق الشعبي في العاصمة بغداد. وعلى كل واحد من عائلتنا المسرحية ان يختار ملابسه واكسسواراته للشخصية التي سيمثلها) كلنا اختار ما يناسبه وما يتفق مع الشخصية التي سيؤديها أحدنا قال هذه الصحون الصغيرة تناسب شخصية المنادي (ولقد كانت قوالب كليجة) اعتقد انها ستكون طبولا صغيرة. الاخرى قالت هذه الخيوط الملونة تناسب شخصيّتي وهنا اعطانا درسا في الاخراج دون ان ندري ومدخلا الى عالم الطفل ولقد كانت اجمل التمارين في يوم الجمعة منذ الصباح حتى مغيب شمس بغداد اما عند منتصف النهار كانت تزورنا زوجته الفنانة خالدة مجيد مع ابنهما الصغير زيدون وهي حاملة معها الطعام (جدر دولمة) من اشهى المأكولات العراقية وبعد الانتهاء من الطعام نقدم للفنانة خالدة مجيد ما انجزناه من التمرين وهي بدورها تعطينا الملاحظات بكل حب وود ثم يقول استاذنا(عملنا للأطفال وجمهورنا طفل اسمه زيدون علينا ان نسمع ما الذي اعجبه) ويتحدث زيدون بكل صراحة لان أباه اعطاه الثقة بنفسه وكنا نصغي له بكل احترام.

كان استاذنا يؤكد دائما على القراءة للشعر والقصة والرواية والمسرح والنقد والتراث وكان يقول ان اساتذتي في موسكو قالوا لي انت ابن الحضارة والتراث عد الى بلدك الغني وستتعرف وستعلم الآخرين اسرار حضارتك ولقد كان ابنا بارا ونزيها حيث كان يأخذنا الى زيارة مسرح الفن الحديث لمشاهدة التمارين لمسرحياته وكذلك اثناء العرض المسرحي واذكر هنا ذات يوم زار العراق الفنان شادي الخليج ووجه دعوة شخصية لقاسم محمد لكنه رفض وقال له (لدي تلاميذي معي ان ترغب في ذلك انا قادم معهم) ذهبنا سوية مع استاذنا الى قاعة الشعب في باب المعظم لسماع الصوت الذي وعدنا به استاذنا.

 

 

 

 

وحين اراد مغادرة معهد الفنون الجميلة الى الفرقة القومية للتمثيل قال (لا اريد لتلاميذي المبدعين ان يكونوا اساتذة في المدارس الابتدائية اقترح على الدولة ان تمنحهم فرصة للدراسة خارج الوطن أو كرسيا للدراسة في المرحلة الثانية في اكاديمية الفنون الجميلة لأنه من غير المعقول ان يجلسوا مع خريجي الاعدادية الذين لم تكن لديهم الخبرة الكافية في فن الاخراج والتمثيل) حينها وافق وزير التعليم العالي والبحث العلمي مباشرة على اقتراح استاذنا. أما في عام 1987 دعاني للمشاركة في عمل لفرقة مسرح الفن الحديث. وكان العمل اعداد عن قصائد للشاعر شاذل طاقة (مسرحية شعراء غرباء ضائعون) حينها سألته عن البحوثية في التمرين المسرحي ولقد قال لي (انا احول العمل المسرحي الى تمرين مستمر من اجل التجسيد الامثل للعرض المسرحي وجعله تمرينا مستمرا قبل العرض واثناء العرض حيث ان مفهوم التمرين ليس البروفة التقليدية وانما هو التفكير المستمر وهذا يتطلب مهارات أدائية جديدة وما هذه المهارات الا مجموعة من الاحلام جملة متراكمة من احلام الممثل الابداعية التي لم يحققها والتي يتطلع الى تحقيقها بشكل معبر لا مألوف تجاوزا لما هو محقق في المسرح العربي اي غير روتيني – حر جريء ممتع مكتشف مثير معبر ومؤثر) ثم بدأت رحلتي معه في الفرقة القومية للتمثيل في مسرحية لعبة الحب ومسرحية المرحوم الحي ثم مسرحية انها امريكا وهنا اذكر انني في احد الايام قد تأخرت عن التمرين في هذه المسرحية وقال لي (انك احد تلاميذي وتعرف انني احب التمرين اكثر من العرض ما بك) قلت له الشقة يجب ان اخليها. وكنت حينها متزوجا ولديّ طفل. قال لي (لا يهم بيتي موجود انت زرتنا أكثر من مرّة وعليك ان تختار اية غرفة تريد). انا اعرف ان بيته صغير لا يسعهم ولكن كلماته لي قد بثت في روحي الامل للبحث عن شقة اخرى. وحين جهز العمل المسرحي (انها امريكا) قال (يجب ان نعرضه في كل محافظات العراق من الشمال الى الجنوب) ولقد عرضنا عملنا وفي كل محافظة كان في استقبالنا العشرات من تلاميذه القدماء. اما المشوار اللذيذ مع الصوفية كان في مسرحية «الوجود المفقود والامل المنشود» ولقد حصلنا على دعوة لعرضها في مهرجان قرطاج. يا لها كارثة كيف سأسافر ومن سيسمح لي بالسفر وانا لم اخدم العلم فلقد كنت هاربا من الجيش ايام الحرب مع إيران لأنني أكره الحرب وأحب الحياة. ولقد كنت قلقا لا اعرف ماذا افعل وقبل ان أحدث استاذي قال (لا تقلق سنطير) حينها علمت ان الايفاد لا يتطلب كتاب تأييد من التجنيد.

كان الطريق من بغداد الى عمّان (12) ساعة. ساعة للتمرين واخرى للطعام والساعة الاهم هي للتمرين الذهني وكان يقول (انتم تعرفون انا لا اصنع خطابي المسرحي على الطاولة وانما بالتمرين فأنا أجهز ادواتي واذهب للجدل انا لست مؤلفا انا صانع عرض مسرحي وان النص المسرحي متحرك كحركة الحياة لا ينفصل عنها بمعنى لا يبتعد عن معاناتها ولكنه دائما يكون في الدرجة الاعلى من السلّم اعلى من الحياة لكي يستطيع ان يخاطبها بقوة فهو يتحرك ولا يثبت لهذا كما ترون ان التمرين في اعمالي متغير وباستمرار اي اكتشاف مستمر وبالأحرى تعميق مستمر لحالات الخلق والابداع) وهنا قلت له ان المفكر الفرنسي رولان بارت يعتبر العرض المسرحي حقل دلالي مرّ كز والدراسات الحديثة تعتبر كل ما على خشبة المسرح من موجودات علامات مسرحية او علامات اشارية ولذا يعتبر مكان العرض المسرحي منظومة من الاشارات الدالة.

(المكان هو وجود حي وشخصية ذات تأثير كبير وانا بالذات اعاني منذ طفولتي بصرياً وبدأت اعي بصرياً ما يحيط بي. هناك ما اخاف منه وهناك ما أتاَلف معه. لذا تراني ابتعد من حيّز واقترب من حيّز ولهذا اعيد تشكيل المكان في كل عرض مسرحي جديد فالمكان ليس المساحة الجغرافية والفيزيكية وانما المكان هو في دواخلنا وانت تعلم جيدا حين اباشر في التمرين ابدأ بأنسنة الجمادات اجعل منها حياة مشتركة مع الممثل).

وصلنا طريبيل أقذر نقطة تفتيش في العالم ولقد انتظرنا ثلاث ساعات للتفتيش القاسي ثم انطلقنا كما الطيور التي تفتح لها اقفاصها بعد سجن طويل. ووصلنا الاردن وصلنا عمّان بوابة الامان للعراقيين ثم الى الطائرة التي توجهت بنا الى تونس وهناك التقيت أحد الفنانين العراقيين وقال لي (كم انت شجاع ها قد وصلت الى تونس هل ستبقى هنا ام تعود الى بغداد وانت مطلوب للحكومة) قلت له كلا سأعود ولن اخذل الاستاذ قاسم محمد. وبعد انتهاء المهرجان فاز عملنا بأكبر جائزة (جائزة السينو غرافيا). وعدنا الى بغداد ومن ثم هربت الى عمّان ومن عمّان الى كندا حيث اعيش الان.

 

قد يعجبك ايضا