الفدرالية في العراق بين التنظير والتطبيق

 

 

 

 

 

خالدة خليل

 

نظرة عامة

ربما تعد الفدرالية من أبرز المطالب التي نادت بها الشعوب التي تتعدد وتتنوع مكوناتها مابين قومي وإثني وثقافي وحتى إقتصادي ، لذا جاءت الفدرالية كتسوية واطار سياسي ضمن نطاق الدولة الواحدة لضمان عدم سيطرة مكون واحد على السلطة فيها أولاً ، ولتأكيد المشاركة السياسية التي تهدف الى تعزيز الروابط المجتمعية والسياسية ثانياً . فأصبحت الدول ذات التعدديات تنادي بأحقيتها في تمكين جميع مكوناتها من المشاركة في الحكم ،وأن بإمكان الفدرالية تلبية تلك المطالب لتسجل أسبقية كونها تجربة سياسية معتمدة ، آفاق التنظير الفلسفي لها .

 

نظام فدرالي

تعيش اليوم حوالي 28 دولة ضمن النظام الفدرالي أي مايشكل نسبة40%من سكان العالم مثل الولايات المتحدة الامريكية التي تضم 50 ولاية ، والمانيا 16 ولاية والهند 28 ولاية ، بينما يضم قسم من الدول الفدرالية ولايتين مختلفتين لغوياً مثل بلجيكا ،حيث يمكن لكل دولة أن تصيغ فدراليتها بالطريقة التي تتناسب مع متطلبات مكوناتها واحتياجاتهم ، وبذلك يكون شكل الفدرالية إنعكاساً للبنية الدستورية في تلك الدولة .

 

إن مايميز النظام الفدرالي عن غيره من الأنظمة هو وجود أقاليم وحكومة إتحادية ، ودستور ينظم العملية السياسية وطريقة المشاركة ويحدد سلطات الحكومة والأقاليم ، فضلاً عن وجود محكمة دستورية مستقلة يُحتكم اليها في حال حدوث النزاع بين الأقاليم أو بين الأقاليم والحكومة الإتحادية .

 

 

أما الدستور الفدرالي فإن له خاصية عدم تمكن أي طرف في الحكم من القيام بتعديله دون موافقة الأطراف الأخرى ، وتعد هذه الإمكانية بالذات إحدى أهم الأركان الأساسية للنظام الفدرالي في أي دولة من الدول .

 

تتمتع الحكومات المحلية بالصلاحيات التي ينص عليها الدستور في تدبير شؤونها ، ويتبع ذلك التنسيق في بعض الصلاحيات المشتركة بين الأقاليم والمركز دستورياً أو تلك السلطات التي تختص بها الحكومة الإتحادية حصراً .

 

كما تشترط الفدرالية أن يكون للأقاليم حدود إدارية واضحة ، يتم ترسيمها وفقاً لآلية مشتركة بين الإقليم والحكومة الإتحادية .

 

أما السلطة التشريعية في ظل الأنظمة الفدرالية فإنها تتشكل من مجلسين : احدهما هو برلمان  يُنتخب أعضاؤه وفقاً للشروط المنصوص عليها في الدستور والقانون الإنتخابي المشرّع من قبل مجلس النواب ، والآخر يكون هيئة سياسية من هيئات السلطة التشريعية يحافظ على توازن المكونات من خلال التشريعات ويُنتخب وفقاً للقانون والشروط المحددة في الدستور والقانون الذي ينتظمه .

 

وتجدر الإشارة الى وجود عدة أسماء لهذه المجالس حسب نظام كل دولة كأن يدعى بمجلس الأعيان كما في الأردن ، أو مجلس الشيوخ كما في الولايات المتحدة ، أو مجلس الشورى كما في البحرين  ، أو مجلس المستشارين الموجود في المغرب .

 

في النظام الفدرالي يحتفظ كل إقليم بحقه في سلطاته التشريعية والتنفيذية والقضائية ، مع وجود السلطات الثلاث في الحكومة الاتحادية والتي تختص حصراً الى جانب تلك السلطات الثلاث بالتمثيل الخارجي والدفاع .

 

 

وبسبب هذه المزايا التي يتمتع بها النظام الفدرالي تعالت الأصوات التي طالبت بها وخاصة في الدول العربية بعد ثورات الربيع العربي ، كونه يحقق الاستقرار ويوفر نظاماً دستورياً تستند اليه التعددية التي تمثل دوراً هاماً في الدفع بالعملية الديمقراطية نحو التطور ، وذلك بنقل الديمقراطية من بُعدها النظري الى البُعد العملي لتصبح سبباً في نجاح التجربة الديمقراطية في الحكم ودافعاً للإرتقاء بها .

 

ولايمكننا أن نفهم الديمقراطية اليوم بعيداً عن التعددية وعن المساواة والمشاركة والتكافؤ في خلق الفرص أمام جميع المكونات ، حيث ترتبط كل هذه المباديء ببعضها في ظل منظومة ديمقراطية تنتهجها الدول المتقدمة  .

 

فالتعددية هي إحدى ركائز الديمقراطية وضمانة لها ، كما أن التعددية تقتضي نوعاً من الحكم القائم على إحترام حقوق المكونات ، والفدرالية بإمكانها تحقيق ذلك المستوى الذي ينعم فيه الجميع بحقوقهم .

 

كما أنه لايمكننا أيضاً أن نفهم الديمقراطية دون فدرالية لأنها سوف تعود بنا الى تركيز السلطة في يد طرف بعينه يفرض آيديولوجيته التي لا تختلف كثيراً عن الحكومات المركزية التي احتكرت السلطة وحرمت المكونات من المشاركة الفعلية وليس الشكلية .

 

ولا يمكن عدّ أي بلدٍ ديمقراطياً لمجرد وجود الإنتخابات و صناديق الإقتراع التي تفرض أحياناً نتائج واقع سياسي معين يشد على عنق السلطة كلما طالبت إحدى المكونات بحقوقها.

 

الفدرالية في العراق ..

 

 

بعد سقوط النظام السياسي في العراق عام 2003 إنتقلت الدولة العراقية من الصيغة البسيطة المركزية ذات النظام الشمولي وحكم الحزب الواحد الى الصيغة المركبة ، التي تشارك فيها عدة أحزاب ومكونات تمثل التعدد الإثني والعرقي والطائفي في العراق وذلك لحاجة هذه المكونات الى إطار ديمقراطي يحفظ حقوقها ، ويعيد بناء شكل الدولة وفقاً واستكمالاً لما بدأ به قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية وإقراره نهائياً في دستور عام2005 كونه يحقق طموحات المكونات كوسيلة دستورية وقانونية لممارسة حقوقهم التي حرموا منها طويلاً خلال عقود من الزمن منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921 وذلك بتطبيق المباديء التي ارساها الدستور في بناء مجتمع ديمقراطي فدرالي قائم على إحترام حقوق  الانسان كهدف وغاية أسمى يسعى اليها المجتمع الدولي بأكمله  .

 

الإ أن الفدرالية في العراق بقيت غير مكتملة بل وتمت عرقلة هذا النظام لأسباب تتعلق بطبيعة العلاقات السياسية داخل الدولة وخارجها . فالسياسات الخارجية قلقة وغير مستقرة بسبب التغييرات الكثيرة في المواقف والمصالح وصراع الأجندات الدولية وحرب الأقطاب ، مما أثر سلباً على العلاقات الداخلية التي يعمل قسم منها بالتوجهات والغايات التي تفرضها طبيعة الجو العام خارج البلد .

 

فبقي النظام الفدرالي في العراق منقوصاً مما أدى الى التقليل من أهلية العراق في تعريفه ديمقراطياً ، فهو لم يرث من الديمقراطية سوى مظهر واحد من مظاهرها وهي الانتخابات التي خلقت مؤخراً جموداً سياسياً بأدوات الديمقراطية نفسها ! محرك اساسي

 

إن دستور 2005 يمكن إعتباره محركاً  أساسياً وفعّالاً للفدرالية التي لم تطبق في الأجزاء الأخرى من العراق سوى في إقليم كوردستان والذي تعود فدراليته أساساً  الى عام 1992 حين فرضها الواقع السياسي والجغرافي والثقافي والقومي لكوردستان ، وبسبب الإنتهاكات المستمرة لحقوق المواطن الكوردي ومعاناته في ظل الحكومات العراقية المتعاقبة .

 

 

فطُرح موضوع الفدرالية في مؤتمر المعارضة عام 1992 والذي عقد في أربيل وإستند هذا الطرح الى قرار 688 الصادر من الأمم المتحدة ، الإ أنه أثار حينها جدلاً طويلاً بسبب القلق من مفهوم الفدرالية وعدم الإستجابة للتغييرات الدولية التي تتزايد مطالبها لهذا النظام، فأصبحت فدرالية كوردستان واقع حالٍ لكنه لم يؤطر قانونياً ودستورياً الى أن تمت الموافقة عليها في دستور 2005 الإ أن تلك الجهات التي وافقت عليه في حينها قد غيرت من خطابها السياسي تماماً بعد ذلك بسنوات قليلة  ، وإن كل ماتم إعتماده نظرياً في الدستور العراقي قد تباين عملياً أثناء تطبيق بعض بنوده بشكل لايتلاءم مع الفهم العام للفدرالية دولياً، أو بسبب تجاهل العديد من بنود الدستور حتى بات خرق الدستور أحد أبرز العلامات التي تميز المرحلة السياسية الحالية من عمر العراق الذي وصف بالضعف ديمقراطياً ومحاولة العودة الى حصر السلطة مركزياً .

 

وبقي مجلس الإتحاد أحد بنود الدستور النظرية في المادة 48 التي لم تطبق ، وكان يفترض تشريع قانونه منذ الدورة البرلمانية الأولى ليكون ضمانة لحقوق المكونات جميعاً دون أن تتمادى إحداها على الأخرى في التشريعات العراقية .

 

أما السبب الآخر فهو عدم تحديد الإعتراف بالحدود الادارية للإقليم بل وجعل بعض أجزائه مناطق متنازع عليها كما ورد في المادة 140 من الدستور . وبذلك اقتطعت أجزاء من حدود كوردستان والتي نصت عليها المواثيق التاريخية والجغرافية عنوة  لتصبح مناطق هشة ومعلقة المصير،بالرغم من أن المادة 140 وضعت في الدستور أساساً لعلاج هذا الخلل في اقتطاع هذه الاجزاء ، لكنها بقيت على رفّ الإنتظار منذ مايقارب العقدين من الزمن مما ضاعف من المشاكل في هذه المناطق وأدى الى عدم الإستقرار والخلل الأمني والخروقات المستمرة ، فضلاً عن عمليات التعريب التي جرت في هذه المناطق منذ السبعينيات وأستمرت حتى الآن بهدف إحداث التغيير الديمغرافي فيها .

 

أن تطبيق هذه المادة يجب أن يستند أساساً الى حقائق جغرافية وتاريخية وثقافية تميز هذه المناطق عن غيرها .  فالتركيبة السكانية واضحة فيها بأنها تابعة للإقليم وجزء لايتجزأ منه ، الا ان الممارسات السياسية حالت دون عودة هذه المناطق الى حضن الأم مما شكل تهديداً حقيقياً للنظام الفدرالي في العراق ، وبذلك تمت عرقلة ترسيم الحدود الادارية في الفدرالية العراقية والذي يعتمد على معرفة المساحة وعدد السكان .وأن التطبيق الفعلي لهذه المادة الدستورية يكون من خلال مراحلها الثلاث وأولاها التطبيع، الذي يُعنى به علاج التغييرات التي طرأت على التركيبة السكانية في كركوك والمناطق المتنازع عليها ما قبل نظام صدام وبعده، والثانية تفرض معرفة الإحصاء السكاني في تلك المناطق، وآخرها هو الاستفتاء لتحديد ما يريده سكانها والذين هم غالبيتهم من الكوردستانيين الذين يريدون الإنضمام الى كوردستان ، مما شكل المخاوف لدى السلطات في الحكومة الإتحادية من تطبيق هذه المادة .

 

وعوداً على الفدرالية فإن الحفاظ على خصوصية المكونات يتطلب هذا النوع من الحكم القائم على أساس إحترام الآخر المختلف وجعل الحوار والتفاهم بديلاً عن الصراع الذي يعيق التنمية سواء في الحكومة الاتحادية أو الاقاليم .

 

ومما لاشك فيه أيضاً أن إكمال الفدرالية لايكون فقط من خلال وجود إقليمين إثنين بل بوجود عدة أقاليم نص عليها الدستور العراقي بغية إكمال بناء النظام السياسي والاجتماعي في العراق ، ومن أجل خلق حالة التوازن بين مكوناته الداخلة ضمن الاطار الفدرالي للدولة العراقية .

 

إتسمت فدرالية العراق بأنها إستجابة موضوعية لخصوصيته ، حيث لايمكن أن يكون النظام الفدرالي ذو نمط واحد يصلح تطبيقه على كل البلدان الفدرالية ، لأن لكل بلد خصوصيته التي تميزه عن سائر البلدان الأخرى .

 

ونستطيع القول أن تطبيق الفدرالية في العراق بحاجة الى ادوات تكميلية ومن أهمها هو الإعتراف بالآخر وقبوله والتفاهم والحوار حول الحقوق والواجبات لإنجاح هذا الحل السياسي المؤطر قانونياً ودستورياً من أجل الدفع بالديمقراطية الناشئة في العراق لجعلها ديمقراطية مستدامة .

قد يعجبك ايضا