شاكر حسن آل سعيد: الأسطورة.. ولغة التصوف.. وشيئية الرسم

 

 

خالد خضير

لقد كتبت عن منجز شاكر حسن آل سعيد بالرسم مراراً، ولكني لم اكتب عنه ناقداً قبل الآن، رغم ان أي من النقاد لم يترك قدر ما ترك شاكر حسن آل سعيد من المدونات، والكتب المهمة التي اسست للنقد التشكيلي العراقي، ابتدأها اولاً ببيان جماعة بغداد للفن الحديث الذي كان آل سعيد فيه صوتاً مؤثراً، فكان أول مفتتح تنظيريّ في تاريخ الفن التشكيلي العراقيّ؛ رغم كونه يحمل نفساً ايديولوجياً مفروضاً على الرسم من خارج الحقل البَصري، فقد تمت استعارته من خطاب الاشكالية الحضارية لعصر النهضة العربية، ثم أصدر آل سعيد (البيان التأملي 1966) الذي نعدّه المساهمة الشخصية الأولى في التنظير الفني آل سعيد، التي تستند الى المستوى البَصَري (الشيئي) للوحة (=للمادة)، فكان بياناً يؤذن بأن آل سعيد، ومنذ عام 1970، قد تخلى عن التشخيصية ذات (الدلالات الاجتماعية الطبقية) كما يصفها، صوب تأسيس تواشج بصريّ ـ نظريّ لا يستقل فيه العمل الفني عن الخبرة المشيدة بواسطة الفكر، مانحاً تجربته الجديدة صفة (اللاشكلية) مؤسساً فكرة التنظيري ـ مفترقاً عن التجريديين التقليديين ـ على التراث الصوفي الإسلامي، وبذلك فهو قد فارق تجربته في الرسم لتكون منقطعة عن تراث الرسم العربي، بينما فتح باباً جديداً عبر التنظير للصلة مع التراث!، مؤسساً معادلته التي تعيد الموجودات إلى النقطة كوجود وكمعرفة (= علم النقطة ليس كمثله شيء) وكآلية تجريدية فاعلة تعود فيها الكتلة إلى أزلها السطح، والسطح إلى أزله الخط، والخط إلى أزله النقطة. ثم طرح شاكر حسن موضوعة الأثر والمحيط اللتين أبقيتا النسغ الرابط مع آثار الواقع وسطوحه وجدرانه قائماً، ثم جاءت دراسته للشقوق التي كانت تظهر في أعماله، والتي كان لها ما يماثل في الجدران، وكان يفلسفها باعتبارها معارج (مفردها معراج) تشق اللوحة نحو الأعالي.

لقد كان صدور كتاب (الحرية في الفن) عام 1974 (يعود تاريخ تدوينه إلى عام 1961) تدشيناً لمرحلة جديدة في فن الكتابة النقدية التشكيلية العربية، وفيه يبشر بميلاد فن البعد الواحد (اللاشكلي) وهو نصّ مكمل للبيان التأملي فكرياً وتاريخياً.

تدوين تاريخ الحركة التشكيلية

كان صدور كتاب آل سيعد المهم الآخر (فصول من تاريخ الحركة التشكيلية في العراق ـ بجزءين) حدثاً فاحتوى كماً من المدونات التاريخية، واستقراءً للتطورات التاريخية المتعاقبة، والمناخ الثقافي، والاجتماعي، والمؤثرات المحلية والأجنبية منذ نشوء الفن العراقي الذي يؤرخ له آل سعيد منذ اواخر العصر العثماني بالرسوم الجدارية والصناعات الحرفية والسجاد والبسط المحلية ورسوم الزجاج وبعض الرسوم القليلة المطبوعة، وما رافق ذلك من التحول من تقاليد فن المنمنمات والمخطوطات إلى تقاليد اللوحة المسندية الحديثة، متتبعاً المراحل اللاحقة في التطور التاريخي العراقي ومؤثراته الفاعلة في الحركة التشكيلية، مروراً بجيل عبد القادر الرسام والفنانين الأوائل ثم الحرب العالمية الثانية وتأسيس جمعية أصدقاء الفن، ونمو الثقافة الفنية وظهور بوادر التنظير الفني نتيجة تطور المستوى الثقافي، ثم مرحلة ظهور الجماعات الفنية ومن ثم ظهور التمرد الستيني ودراسة أساليب الفنانين كأفراد.

ونحن نعتبر هذا الكتاب أضخم وأهم مرجع عن تاريخ الحركة التشكيلية العراقية، وانجازاً استثنائياً حري بان يعتمد مرجعاً في تدريس الفن التشكيلي العراقي، بما يحتوي من معلومات وتوثيق ودراسة لعشرات الرسامين العراقيين المهمين وما كتب عنهم وأهم معارضهم وجماعات الفن وتوجهاته الرئيسة.

الحرب والسلام

نعد كتاب (الحرب والسلام) متفرداً في بنيته، فهو ينقل محتويات معرض بالعنوان ذاته مرفقا مع مدونة نقدية تنظيرية قصيرة حول فن التخطيط عند آل سعيد ذاته، حيث يطرح موضوعة (الطاقة الجامعة بين التدوين والطرح) التي يعرفها بأنها (نظام الاشارات السيمائية كالتنقيط والتسهيم بالإضافة إلى ابجديات الأرقام والحروف وكل ما يحقق مفهوم الزمان والمكان في العمل الفني) عبر (تكثيف الإحساس البصري بالأشكال) والوعي بالمادة المستخدمة في الرسم التخطيطي، أي المداد الأسود (فالحبر المستخدم للتخطيط يظل معبراً بمادته ولونه معاً، إذ هو يلتقي مع نوع الورق الأبيض عن معنى تداخل كل من الرسم والكتابة يشكل حواراً بين اللونين الأسود والأبيض)، وستشكل الوحدات التي تؤلف المنظومة التدوينية لدى آل سعيد الكلمات، ولكنها (كلمات) وجدت مستقلة وليست توضيحاً لنصوص مقروءة سابقة ومرافقة لها، كما هي العادة في الرسوم التوضيحية، أنها اشارات وجدت لترى وليس لتمثل رموزاً كتابية أو علاماتية تحيل لمرجعية خارجها.

أصدر آل سعيد عام 1994 كتاباً بعنوان (مقالات في التنظير والنقد الفني) تضمن مقدمة بين حرية الأسلوب وايجابية الموقف تبحث ايجابية الموقف كما طرحها آرنست فيشر في كتابه (ضرورة الفن)، ثم مقالات عن نشأة الفن العراقي المعاصر وتطوره منذ عبد القادر الرسام مروراً بمراحل الفن العراقي المتعاقبة وتجربة يحيى بن محمود الواسطي، ثم تجربة الحقيقة المحيطية في الفن العراقي ثم ثلاث دراسات تطبيقية حول جواد سليم ودراسات أخرى عن الرسامين الرواد والستينيين وهي دراسات مهمة تبحث جوانب مهمة في تجاربهم.

اكتمال الصناعتين

لقد كان آخر كتب شاكر حسن آل سعيد هو (البحث في جوهرة التفاني بين الأنا والآخر.. تأملات ودراسات في الاسطورة واللغة والفن)، وتمّ إصداره ضمن فعاليات بينالي الشارقة الدولي في دورته السادسة عام 2003، ويعد هذا الكتاب مدونة تنظيرية (استثنائية) بحثت موضوعات مهمة ومتنوعة في تجربة آل سعيد النقدية.

لقد كانت السمة الأكثر وضوحاً، والتي يؤكدها آل سعيد في كتاباته السابقة دائماً هي السمة (الكولاجية)، وهي تسمية يستعيرها من فن الرسم ذاته، وهي سمة يبدو أنها مستمدة من بنية الكتابات التأملية والصوفية والكتابات العربية القديمة، وعلى الأخص كتابات محيي الدين بن عربي، وفريد الدين العطار، والنفري والحلاج والتي يتماهى آل سعيد معها بقوة، فلا تمر صفحة من دون إحالة واقتباس بنصوص من هؤلاء، أو مما كتب عنهم، وكان أهم ما يميز كتاباتهم فقدان الوحدة الموضوعية، بالفهم الحديث، وسيادة التنوع الهائل في الموضوعات، مما يجعل فهرسة تلك الموضوعات للعودة إليها امراً قد يبدو مستحيلاً. وقد بلغ المستوى التقني للكتابة عند آل سعيد في كتابه الأخير ارفع مستوياته، ففي هذا الكتاب الذي صدر عام 2003، في الشارقة يدرس شاكر حسن الترابط الذي يفترضه وثيقاً بين ثلاثة مصادر للمعرفة، تشكل مرتكزاته الفكرية وهي: الاسطورة (=الأساطير العراقية القديمة)، ولغة التصوف الإسلامية (=اللغة)، واخيراً منيريالية فن الرسم (شيئية اللوحة). ويجئ الكتاب كمحصلة لاهتمام المؤلف بالأنطولوجيا والاسطورة والنظام أو النسق اللغوي والتنظير الفني مؤكداً على ان هدفه هو الوصول إلى (اليقين) المعرفي عبر أكثر من سبب (واحد) في الأشياء، مؤكداً ان الاستنساخ يختلف عن الاستدلال والاستقراء، مستخدماً شتى الوسائل الممكنة للاكتشاف عبر منهج يسميه تراجعياً (أركولوجيا) في ممارسة (التحديق) عبر الاستكشاف كمحاولة للعودة إلى الوجود الجنيني للحقيقة المعرفية، بما يؤدي إلى توليف ما هو (متناقض ظاهرياً ومتفق باطنياً)، ويحاول إخضاع استراتيجية التوليفي) في بحثه من خلال اختبار استجابة مصادره المعرفية الثلاثة لكل مفهوم جديد يدخل ضمن جهده النقدي من خلال اعادة كتابة أعماله بشكل دائم بعد كل (تطور) انقطاعي يحدث في منجزه في الرسم والتنظير معاً.

يضم الكتاب ستة فصول هي: نزول عشتار إلى العالم السفلي كبحث اسطوري/ فني، ثم انكيدو في أسطورة جلجامش كخلية أولى للتصوف الإسلامي، ثم قراءات لنصوص أسطورية للمؤلف: قراءات جديدة في كل مرة، ثم دراسة الأوفاق: استقصاء جذر الوفق الاشكالي (من شكل) ثم رؤيتي الفنية كما آلت إليه اخيراً (التراكم والتعرية)، واخيراً دراسة ميتافيزيقية أولية في الابجدية: استقصاء جمالي.

ان قراءة آل سعيد (للسابق) يلخصها بكونها: ليست مسبوقة من الناحية الثقافية بسوى قدرته على القراءة أو الكتابة.. وهي محاولة في (قراءة) النصوص قراءة معينة، فالتأليف عند هذا المستوى هو قراءة للنص، أي لنص سبق تأليفه، في الاسطورة، وفي المقالة، وفي الرسم، وفي الابستمولوجيا وفي الايقونة الحروفية وفي فن اللغة الاوفاقية، وفي كل ما هو بُعد من ابعاد الثقافة الإنسانية وهي في حالة كونها مجرد تدوين لخطاب) لذا يمكن برأيه ان نضع عنواناً جديداً للكتاب بصيغة (محاولة في قراءة نصوص.. تأملات ودراسات).

التعرية.. نبوءة الموت

ان أكثر ما يلفت الانتباه برأينا، هو الطابع النبوئي لهذا الكتاب بالموت، من خلال تكريسه ما يسميه آل سعيد (التعرية الشيئية)، وهو (العدّ التنازلي من أجل الوصول إلى معنى (الصفر) بالمفهوم الرياضيّ) باعتبار (ان العمل الفني وهو على مكانته الاولى يمثل قيمة صفر، نقبل ان يكون مجرد سطح تصويري فهو لم يصل إلى (نقطة الصفر) بعد، حيث لم يزل خامات بطورها غير المتشكل. فالتعرية الشيئية في مفهومها الرياضي تكمن ما قبل حالة (الصفر) في التعبير الفني، فالتعرية هي عملية حفريات آثارية، أي (الإزالة) القصدية للمظهر التراكمي للطبقات الآثارية من أجل المعرفة، وهي معنى معاكس (للحدس) بالتراكم.

ان التعرية مفهوم كوني، فالطبيعة تتعرى بفعل مؤثراتها وعشتار تتعرى بفعل قوانين العالم السفلي، وهكذا تظهر معالم التضاريس السلبية أي (المتقعّرة) لا (المحدودبة) كنتائج في (التعرية) كالأخاديد وشقوق الأرض.

تظل التعرية بمثابة المحور الأول في الكشف عن (تشيؤ) العمل الفني وفي النقد ومعاملة اللوحة (لذاتها) دونما احتكام للفنان أو الجمهور، وبذلك يجد الناقد) آل سعيد (التبرير) الفكري لمنجز (الرسام) آل سعيد في بحثه في التخريز والشخبطة والتخديد (من أخدود)؛ وبذلك فهو يستعير القوى الفاعلة للطبيعة في عمله الفني ومن ثم تأثيرها في ذلك العمل. يعتبر آل سعيد ان البحث الأركولوجي في آثار الجدران جزءا من (ثقافة) ساكني المدينة التي تطورت في منجزه لتنتهي إلى التخديد.

ان للتعرية والتراكم جوانب فعل في الإنسان وان لم يذكرها المؤلف، لكن المتلقي يستشعرها باعتبارها مسكوتاً عنها، فإن عمل شاكر حسن الدؤوب كان محاولة دائمة لإجهاض فعل (التعرية) التي يتعرض لها شخصياً (= الوهن) بالتراكم الذي يحدثه في (كمّه) الثقافي، أي في تطوره الثقافي الذي كان يطوره في كل مقال ينشره.

آخر اللمسات

يبسط آل سعيد آخر تطوراته الثقافية في مقال كتبه في 6/ 7/ 1984، ونشر ضمن كتابه الأخير، ويلخص تلك التطورات بما يأتي:

اولاً: الايمان بأن تقييم الاعمال الفنية لا ينجز بالحكم على أسلوب الفنان، بل بما (يكمن وراءه) من (فكر تنظيري) يمتلكه الفنان.

ثانياً: امتلاك المتأمل لنظرة شهودية للعالم تنتهي إلى التعامل مع العمل الفني باعتباره امتداداً للعالم المحيطي العيني وباعتباره وسيلة للتعبير عن الحرية.

ثالثا: امتلاك العمل الفني كيانه الذاتي وهو يتمتع (بقطيعة) ابستمولوجية بينه وبين الفنان والمشاهد، وبذلك تتحقق (الاستقلالية) الشيئية للعمل الفني.

رابعاً: تواشج العلاقة بين الذات والموضوع وتمرحلها في انتماء الفنان إلى العالم المرئي ثم اكتشافه (التجريدية) باعتبارها توكيدا للعلاقات الإنسانية للطبيعة، وبناء الفحوى المطلقة للمرحلة الحضارية المعاصرة، ثم عودة الفنان للانتماء إلى العالم المرئي من خلال الانطباع العيني (الحسي البصري ثم الوجداني)، ثم الوصول باستبدال الواقع الشخصي أو التجريدي إلى الواقع الموضوعي أو الذي يكونه مفهوم الأثر، الذي يعرفه آل سعيد بأنه (الشكل الموضوعي للنزعة التشخيصية)، واخيراً يصل إلى (الموضوعة ـ الذات) وتبرز فيها النزعة اللغوية في الفن التشكيلي، حيث يوغل في إحالة العالم الإشاري إلى العالم اللغوي، حيث يستوعب مفهوم الأثر (جزئيات العالم وتفاريقه كفن بصري مشحون بـ(الطاقة اللغوية)، حيث الاشارة والصورة، وحيث (فن الفعل) المرتكز برأيه بظهور أثر عناصر التكوين الاربعة وهي: الماء عند معاملة اللوحة وما عليها من ألوان بحيث يظهر تأثيره على اللوحة في استخدام (السيولة) في التقنية اللونية. والنار للحصول على ألوان تعطي إحساس (المعتم ـ المضيء) وفوهات تحدثها الحروق القوية، ثم التراب في اسباغه روحيته على عجينة الألوان، واخيراً الهواء في الألوان المسقطة على اللوحة بتقنية النفخ؛ وبذلك تكون تلك (المؤثرات) هي (الوحدات الابجدية) للخامات من خلال (آثار) تلك القوى وايجابية الرسام.

لقد كان آل سعيد يطمح إلى تكريس الجانب الإشاري ومعناه الابجدي من خلال (الشقوق والآثار والندبات والحروق والخدوش والفوهات) باعتبارها (وحدات تقنية).

هل وفينا شاكر حسن آل سعيد جزءاً من حقه؟ اعتقد ان المقال سيطول كثيراً حتى نشعر بأننا قد وفيناه جزءاً من ذلك الحق، ولكننا مضطرون لأن نقف ولكنها وقفة مؤقتة بالتأكيد.

قد يعجبك ايضا