يوم التعداد في مندلي، بين الحنين والإثبات

 

 

صبحي مندلاوي

حين تناديك الجذور، يصبح كل بُعدٍ وهمًا، وكل مسافة مجرد اختبارٍ لصبرك. هكذا وجدنا أنفسنا نسابق الزمن نحو مدينتنا المنسية، مندلي، التي تفصلنا عنها مئات الكيلومترات. كانت تلك المسافة أقصر مما تبدو، كيف لا وهي تحتضن ذاكرة أجيالٍ وأحلامًا طُمِست تحت ركام الظلم والنسيان؟

 

مندلي، المدينة الكوردستانية المنسية، استقبلتنا بأطلالها الموشومة بوجع السنين، وبذكرياتٍ رفضت أن تموت رغم محاولات طمسها.

 

تسارعت نبضاتنا مع خطواتنا، وكلما اقتربنا من أعتاب المدينة، غمرتنا صور الماضي بألوانها المختلفة. كانت البيوت المهجورة والشوارع الصامتة شاهدةً على تاريخٍ مثقلٍ بالقهر، بينما نحن، ومعنا عشرات العوائل الكوردية التي شُرّدت قسرًا، نعود لنثبت وجودنا في يوم التعداد العام للسكان في العراق، والذي كان أشبه برحلة مقاومةٍ نواجه فيها صعابًا تفوق قدرتنا على التوقع.

 

كان اللقاء مع الأحبة موجزًا، فالجميع كان يحمل همًا واحدًا: إثبات حقنا في الوجود، والتشبث بهويتنا رغم سنوات التهجير. لم يكن الأمر مجرد تسجيل أسماء، بل كان معركةً صامتة نُخوضها على أرضٍ تقف على حافة النسيان.

 

ولكن لم يكن الطريق سهلاً، فهناك عيونٌ تترقب تحركاتنا بقلقٍ وحذر. مسؤولون تسلطوا على مقدرات المدينة، ينظرون إلينا وكأننا غرباء في وطننا. ومن بينهم، كان مدير الشرطة الذي أوعز لمنتسبيه قائلاً: “إنهم جماعة البارزاني… احذروهم.” كلماتٌ ثقيلة، تعكس خوفهم من الحق الذي نحمله في قلوبنا، ومن الإرادة التي لا تعرف الانكسار.

 

رغم ذلك، لم نتوقف، ولم ترهبنا نظرات الخوف من البعض الذين يخشون عودة أبناء مندلي الأصليين من الكورد المرحّلين قسرًا. كان البحث عن رجال التعداد شاقًا وسط أعينٍ ترصدنا وتراقب خطواتنا. وهناك، في “رحى قره لوس”، حيث تنبض الشهامة والشهادة، وحيث رائحة التراب ما زالت تحمل عبق البطولة، جلسنا ننتظر وصول العداد بقلقٍ من عدم إثبات الوجود.

 

وجدنا أنفسنا نخوض معركة أخرى مع الوقت والتحديات. وبعد جهودٍ مضنية، حضر العداد أخيرًا. لحظة تسجيل أسمائنا لم تكن مجرد إجراء إداري، بل كانت صرخةً في وجه النسيان، تأكيدًا أن الكورد المرحّلين قسرًا لا يزالون هنا، وأن جذورهم أعمق من أن تُقتلع.

 

ووسط الأمل الذي حملناه، لم تخلُ الرحلة من مرارة الفشل. بعض العوائل التي قطعت المسافات من مدنٍ أخرى لم تُوفَّق في تسجيل أسمائها بسبب سعي الغرباء الحاقدين لإحباط هذا الإصرار الكوردي المندلاوي. كنا نشعر بثقل الخيبة في عيونهم، وبتلك الحسرة التي لا يمكن التعبير عنها إلا بالصمت. لكننا، رغم ذلك، كنا ندرك أن المحاولة بحد ذاتها انتصارٌ على النسيان، وأن الحضور أمام التاريخ لا يُقاس فقط بالنتائج، بل بالإصرار على المقاومة.

 

في ذلك اليوم، لم يكن الحضور مجرد أرقام تُضاف إلى إحصائية، بل كان رسالة قوية بأننا نعيش، نحلم، ونعود مهما حاول الزمن إبعادنا. مندلي، رغم أطلالها، ما زالت حيةً في أرواحنا، ترفض أن تكون منسية، ونحن بدورنا نرفض أن نكون غرباء فيها.

 

بعدما أكملنا مهمتنا، لم نستطع أن نترك المدينة دون أن نستعيد شيئًا من روحها. قمنا بجولةٍ في أحيائها المليئة بعبق الذكريات. هنا “قلعة بالي”، وفيها مقر الحزب الديمقراطي الكوردستاني، الذي شهد العديد من المنازلات والتحديات الكبيرة في مواجهة البعثيين. وها هي “كبرات” التي تحمل حوافر الفرسان، وتلك “محلة قلم حاجي” التي لا تزال جذور تنانيرهم شاخصة. في “بازار گەورا” (السوق الكبير) و**“بازار بيچك”** (السوق الصغير)، حيث الحمامات و”بوياقي” و”هني مني” و”قلم حاجي”، كل هذه المحلات بعناوينها الكوردية الشاخصة لم يتبقَّ منها سوى خرائب تحكي ذكريات الزمان.

 

في زيارتنا لمرقد الإمام كرزدين، شعرنا بشيءٍ من السكينة وسط كل ذلك الضجيج الداخلي. كان المكان مهيبًا، يحمل طمأنينةً تعبر الزمان والمكان. وقفنا هناك بصمت، ندعو لأن تبقى مندلي حيةً في ذاكرتنا، وأن تعود يومًا إلى سابق عهدها، مدينةً نابضة بالحياة بدلًا من أن تكون صفحة مطوية في كتاب التاريخ.

 

ومع كل هذه اللحظات التي جمعت الحزن والأمل، كان أهل مندلي حاضرون بكرمهم الذي أذهلنا. رغم صعوبة حياتهم وضيق الحال الذي يعانون منه، فتحوا لنا أبوابهم وقلوبهم. أحرجونا بكرمهم الذي حمل طابعًا عظيمًا من الأصالة والطيبة. كنا نشعر بالخجل أمام كرم (كاك طه) وسخائه المفرط، هو وأولاده وزوجته المقعدة. رغم ظروفهم القاسية، قدّموا لنا كل شيءٍ بابتسامةٍ ورضا لا محدود، وكأنما أرادوا أن يقولوا: “هذه مدينتنا، وهذه قيمنا.”

 

كانت مندلي تعانقنا بحزنها وصمتها، وكأنها تشكرنا على زيارتها، بينما نحن نحاول أن نملأ صدورنا بأنفاسها، كأنما نخشى أن ننساها مرة أخرى.

 

في نهاية رحلتنا، غادرنا مندلي ونحن نحمل ثقل الذكريات وصدى الوجوه التي التقيناها. كان الحزن واضحًا في أعيننا، لكننا أيضًا شعرنا بنوعٍ من الراحة. فقد أثبتنا أننا لم ننسَ، وأن مندلي ليست وحدها، وأننا مهما ابتعدنا سنعود إليها، ولو بأسمائنا في سجلات التعداد، ولو بزيارة أطلالها التي ما زالت صامدة كقلوب أهلها.

 

كان يوم التعداد أكثر من حدثٍ عابر؛ كان صرخةً بأن الجذور لا تُقتلع، وأن الهوية لا تموت.

قد يعجبك ايضا